للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التي يتبعها في بلبلة بال الرشيد وتنفيره من الحياة وزينتها، على حين كان الفضل بن الربيع يغريه بذلك ويثيبه عليه

وشيء آخر يزيدنا إيمانا بما ذهبنا إليه من انقطاع صلات المودة بين أبي العتاهية والبرامكة، وذلك هو أننا لا نجد له بيتا واحداً من الشعر في مدحهم. أليس ذلك عجيبا حقا في ضوء ما نعلمه من حرص أبي العتاهية الشديد على جمع المال، وما نعلمه إلى جانب ذلك من كرم البرامكة الذي كان مضرب الأمثال؟ فهل كان أبو العتاهية جالاه بأنباء ذلك الكرم والبرامكة منه قاب قوسين أو أدنى يغادونه ويراوحونه في بغداد؟ كلا لم يكن شاعرنا جاهلا بشيء من ذلك، ولكن صلته بالفضل بن الربيع ومناصرته له عليهم حرمته عطفهم، ما بيته وبينهم. وإذا أعوزك الدليل على ذلك، فاستمع إلى أبي الفرج إذ يقول: سأل أبو العتاهية صالحا الشهرزوري - وكان صديقا له - أن يكلم الفضل بن يحيى في حاجة له، فتردد صالح في ذلك وأبدى استعداده لأن يمنح الشاعر ما يشاء من ماله الخاص، ولكن الشاعر أبى إلا ما يريد، وأنب صالحا وقرعه في عدة مقطوعات شعرية، ولما وصل صالحا الأبيات التالية:

أهل التخلق لو يدوم تخلق ... لسكنت ظل جناح من يتخلق

ما الناس في الإمساك إلا واحد ... فبأيهم إن حصلوا أتعلق

هذا زمان قد تعود أهله ... تيه الملوك وفعل من يتصدق

لم يجد بدا من الذهاب كارها إلى الفضل ومعه الأبيات السالفة، وكلمه في شأن أبي العتاهية، فقال الفضل: لا والله ما شيء على الأرض أبغض إلى من إسداء عارفة إلى أبي العتاهية، وقد قضيت حاجته لك

أرأيت كيف كان الفرق واضحا بيم معاملة الفضل بن الربيع للشاعر، ومعاملة الفضل بين يحيى له؟ فبينا نرى الأول لا يكتفي بما يسبغه على الشاعر من ماله الخاص، بل ينتزع له الأموال من الخلفاء، ويروج لأشعاره عندهم، إذ بنا نرى الشاعر لا يكاد يجرؤ على القرب من الفضل بن يحيى حينما تعرض له حاجة عنده، بل يطلب له الشفعاء والوسطاء

وإننا لنعتقد أن فهم ما كان بين الشاعر والبرامكة، وما كان بينهم وبين الفضل بين الربيع من خلاف على النحو الذي ذكرناه؛ هو الطريق السليم إلى تفسير حدث غامض في الأدب

<<  <  ج:
ص:  >  >>