للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العربي، لا يكاد المرء يتدبره حتى يحس أن هناك فراغا في نفسه أو القصة يحتاج إلى ملء. فقد روى الصولي في أوراقه أن يحيى بن خالد البرمكي شعر بحاجة إلى حفظ كتاب كليلة ودمنة، ولكي يسهل ذلك الأمر على نفسه طلب إلى صنيعته أبان اللاحقي أن ينظمه له. ويشتد حرص يحيى على إنجاز نظم الكتاب في أقصر وقت، فيحبس أبانا في منزله إلى أن يفرغ منه، ثم يعطيه جائزة سنية عند انتهائه من الكتاب. ويذكر الصولي أن جعفراً البرمكي كان يحفظ الكتاب أيضا. ثم يذكر في مكان آخر أن يحيى قال لأبان: هلا قلت شيئا في الزهد، وأن أبانا نظم أشعارا كثيرة في الزكاة وغيرها من العبادات. ويروي أبو الفرج أنه نظم قصيدة شماها ذات الحلل، ذكر فيها مبدأ الخلق وأمر الدنيا وشيئا من المنطق، وينسبها بعض الماس إلى أبي العتاهية. والآن فلنناقش هذه الأخبار واحدة فواحدا. أما ما كان من رغبة يحيى وجعفراً في حفظ كليلة ودمنة فأمر يستوجي التساؤل: لم عني البرامكة بهذا الكتاب تلك العناية الشديدة، ولم حرصوا على حفظه أو حفظ شيء منه، ولم كانت العجلة في نظمه عجلة أدت إلى حبس ناظمه؟

والإجابة عن تلك الأسئلة تسهل علينا إذا نظرنا إلى موضوع الكتاب، فما هو إلا محاورات وضعت ألسنة الحيوانات، وتدور حول ما يدبره بعض الناس للبعض الآخر من مكائد، وما يبيتون لهم من شرور، وآية ذلك أن أولى قصصه وأهمها نصف حال شخصين متحابين متوادين دخل بينهما ثالث، وما زال يسعى بينهما بالسوء حتى أفسد ما كانا عليه من مودة ثم أهلكهما جميعا. ولعل القارئ الكريم قد رأى معي تمام الشبه بين موضوع الكتاب وما كان يمثل إذ ذاك على مسرح بغداد من روايات؛ أليس هذان المتحابان هما البرامكة أو قل جعفر البرمكي بالذات من جهة، وهارون الرشيد من جهة أخرى، كما أن الداخل الثالث بينهما هو الفضل بن الربيع. ألا يمكن أن يكون يحيى وابنه جعفر، إنما أرادا بحفظ ذلك الكتاب أن يجدا المادة حاضرة كلما عنت مناسبة لتبصرة الرشيد بما كان يدبره له ولهم الفضل بن الربيع من مكائد توشك أن تذهب بأكفأ وزرائه وأوفى أصدقائه، وكفى بذلك وبالا على الطرفين؛ نعم، قد يكون ذلك بعض ما قصدوا إليه من حفظ الكتاب. وليس ببعيد أن يكون البرامكة - وقد حاورا في أمرهم لكثرة ما يرميهم به الفضل من مكائد - قد عمدوا إلى حفظ ذلك الكتاب حتى يجدوا فيه جواباً شافيا لكل ما يعرض لهم من أسئلة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>