للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومخرجا مما يقعون فيه من مآزق، وإرشادا لما يمكن أن يلتزموه من أساليب الحيطة والحذر. والحكمة حينئذ في وضع الكتاب في قالب شعري واضحة، فإن الشعر أيسر في الحفظ وأخف على اللسان؛ ولذلك كان مستودع المثل السائر والحكمة البالغة منذ القدم، ولا شك أن فنا كهذا شأنه أكثر ملاءمة لمجلس الخليفة من النثر

وأما ما كان من إيحاء يحيى بن خالد إلى أبان بأن يقول شيئا في الزهد، مع ما يعلمه من أن الزهد ينبعث من النفس ولا يفرض عليها، وما يعلمه أيضاً من أن أبانا كان رأسا من رؤوس الزنادقة في عصره، فأمر أريد به النيل من أبي العتاهية الذي كان يحتكر ذلك الفن الأدبي، ويبني عليه صرح عظمته الشعرية، ولا أدل على غيرته على ذلك الفن وحرصه على ألا يشاركه فيه أحد، من انزعاجه حين علم يوما أن أبا نواس قد بدأ يقول الشعر في الزهد، ثم ما كان من إرساله رسولا إلى أبي نواس يحذره أن يقول شيئا في الزهد؛ ويخبره أن ذلك فن اخترعه هو وسيحميه من كل مغير عليه أو مشارك فيه، ويظهر أن أبانا لم يستطع إقحام نفسه في عالم الزهاد، لما عف عنه جيدا من انتمائه إلى دنيا الزنادقة، ولما كان لابد له من الاستجابة لمولاه في صورة من الصور، فقد أخذ ينظم الأشعار في العبادات من زكاة وصلاة ونحوها، وكأن أبانا قد أراد أن يذكر أبا العتاهية بالأثر المشهور (ما تقرب عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، وأن يخبره بأنه يجب على المرء أن يشعل نفسه بالعبادات، لا أن يطيل الحديث عن الموت والقبور وما تؤدي إليه من خراب العالم ودماره، مسميا ذلك زهدا وورعا

وأما ما أورده الصولي من أن أبانا قد أنشأ قصيدة سماها ذات الحلل، وقد أودعها شيئا من المنطق، وأن بعض الناس كان ينسبها إلى أبي العتاهية، فدليل جديد على أن أبانا كان يعارض أبا العتاهية في شعره، ويحاكيه محاكاة شديدة، حتى اختلط أمرهما على الناس، وصاروا ينسبون ما لأحدهما للآخر

والآن وقد عرفت رأينا في الدوافع المختلفة التي أفضت إلى ما حدث من تحول في حياة شاعرنا من مرج إلى كآبة، ومن تفاؤل إلى تشاؤم، لعلك متطلع إلى معرفة آراء السابقين في ذلك. ونحن حين نحاول الإشارة باختصار إلى تلك الآراء، نرجو من القارئ أن يتذكر ما قدمناه في صدر بحثنا من أن الشاعر كان ملتويا في التعبير عن آرائه، لما كانت

<<  <  ج:
ص:  >  >>