للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تتضمنه أحياناً من مهاجمة الخلفاء والوزراء، ولذلك كان من الصعب أن يصل مؤرخو الأدب إلى أغراض الشاعر الحقيقية، إلا إذا توفروا على دراسته دراسة تحليلية، وأوتوا الزمن الكافي لمثل تلك الدراسة، وذلك ما لم يحظ به الشاعر من قبل، وهكذا عاش شاعرنا مجهولا حتى أمس القريب، لا يعرف عنه الناس إلا أنه كان زاهدا، وذلك نرجو أن ينتهي هذا البحث إلى نفيه عن الشاعر نفيا تاماً

ومع أننا قد اعتمدنا في تكوين رأينا عن الشاعر على دراسة بيئته وطفولته ثم أشعاره دراسة هادئة مطمئنة، فإننا نظلم القدماء إذا لم نذكر أنهم أيضاً قد أوردوا بعض لمحات يمكن أن يهتدي بها الساري في دياجي تلك الحياة المعقدة الغامضة، ونعني حياة شاعرنا. من ذلك ما أورده الأغاني من محاورات دارت مع الشاعر أو دارت حوله، أو أبيات شعرية قيلت فيه من أعدائه ومنافسيه، وكل ما يقال عن تلك الأخبار أنها كانت سلبية، ونعني بذلك أنها بما أكدته من بخل الشاعر الشديد وحرصه العظيم على جمع المال، فقد نفت أن يكون الشاعر قد نهج نهجه الجديد في الحياة، الذي يبدأ عام ١٨٠ هجرية تحت تأثير ميل حقيقي إلى الزهد كما نعرفه نحن، ولكنها تقف مكتوفة اليدين عند ذلك الحد، فلا تذكر لماذا إذن لبس ملابس الزهاد وأكثر القول في الزهد

ومن ذلك تلك المحاورة التي دارت بينه وبين ثمامة بن أشرس حينما قال الشاعر:

ألا إنما مالي الذي أنا منفق ... وليس لي المال الذي أنا تاركه

إذا كنت ذا مال فبادر به الذي ... يحق وإلا استهلكته مهالكه

فقال له ثمامة: إن كنت تؤمن بما تقول، فلم تحبس عندك سبعا وعشرين بدرة في دارك، لا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي، ولا تقدمها ذخرا ليوم فقرك؟ فقال يا أبا معن والله إن ما قلت لهو الحق، ولكني أخاف الفقر والحاجة. ومن ذلك أيضاً ما رواه صاحب الأغاني عن العباس بن عبيد الله قال: كنا عند قثم بن جعفر بن سليمان وعنده أبو العتاهية ينشد في الزهد فقال قثم: يا عباس اطلب الساعة الجماز حيث كان ولك عندي سبق فطلبته، وحين حضر مجلس قثم وجد أبا العتاهية ما زال ينشده في الزهد، فأنشأ الجماز يقول:

ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزهد الناس ولا يزهد

لو كان في تزهيده صادقا ... أضحى وأمسى بيته المسجد

<<  <  ج:
ص:  >  >>