فإذا صح ما ذهبنا إليه من أمر الرشيد الذي عاش حياته مقسما بين الحرب والحج، ومغالبة الأعداء والخصوم من الروم، والعلويين البرامكة. .، فلا يمنع هذا العظيم المشبوب بالحماسة والقوة والحيوية، من أن يرد موارد المتاع بالسمر ومجالس الطرب، فذلك يتمشى مع طابعه ولا يتعارض معه بحال من الأحوال.
وقد أداه طبعه السياسي والواضح هذا إلى أن يرسم الخطط للأمور التي يمكن أن تقع بعد عهد طويل. . ولا بأس عليه من أن يخطئ. . خطأ المجتهد، في أن ينظم المملكة من بعده على صورة مبايعة طويلة المدى لأولاده، أو أن يقتل الخارجين، وهو على وشك الموت.
ولا شك أن تصرفه في كسب صداقة شارلمان، وإهدائه إياه مفاتيح بيت المقدس، هو من وعي السياسي النابه الذي يريد أن يحول بين عادية الصراع بين الشرق والغرب، وهو ما امتحنت به المملكة الإسلامية بعد ذلك.
وجملة القول في الرشيد أنه كان من أبرع ساسة الشرق، وخلفاءه الإسلام، وأنه لم يكن بالمترف اللين الناعم كما صوره صاحب الأغاني، أو كاتب ألف ليلة وليلة، ولكنه كان قاسيا جبارا، فيه روح المجاهد المحارب، وعاطفة الشباب الفوار، الذي لا يحب الهزيمة، والذي يتعقب خصومه ويفتك بهم، والذي يحب مجالس العلم، ومجالس الفن، ويلقاها مرحا مبتسما طلقا، وإن طوى النفس على عزيمة ماضية تبرز في قوة حين يتصل الأمر بشخصه أو سلطانه