وقد تزين بلباس الدين أقوام من مشايخ الطرق وأصحاب الأذكار والأولاد، هم لايفهمون قليلا عن روح الشريعة ولباب الإسلام، وصادفوا من العامة ثقة غالية ومنزلة رفيعة فحرفوا الكلم عن موضعه، وابتدعوا البدع ابتداعا، وجسموا الأوهام تجسيما يدعو إلى الذعر والهلع، ومسخوا روح الدين من النفوس، وساعدوا الطغاة والآثمين، فكانوا مطاياهم السريعة في التنويم والتخدير، وزاد الكارثة هولا أن هؤلاء الأدعياء لا يتورعون عن الآثام في حقير أو جليل، فهم يقترفون الموبقات، وينتهكون المحارم! ويتصيدون الرشى والأموال من سبل مريبة، حتى فاح النتن الآسن منهم على الناس، ولابد لهذه الشرذمة من نقد عاصف يكشف زيفها الخاتل، ويطمس بريقها الأخاذ، فأندفع الجواهري يندد بهم في قصائده الثائرة كأن يقول
تحكم باسم الدين كل مذمم ... ومرتكب حفت به الشبهات
وما الدين إلا آلة يشهرونها ... إلى غرض يقضونه وأداة
وخلفهمو الأسباط تترى ومنهمو ... لصوص ومنهم لاطة وزناة
وما كان هذا الدين لولا ادعاؤهم ... لتمتاز في أحكامه الطبقات
أتجبي ملايين لفرد وحوله ... ألوف عليهم حلت الصدقات
وأعجب منها أنهم ينكرونها ... عليهم وهم لو ينصفون جباة
والشاعر لا يترك سبيلا للتنديد بهم إلا سلكه وأغل فيه، ولو لم تكن مناسبة الكلام قوية ملحة، فعندما احتفلت البلاد بالذكرى الألفية لأبى العلاء المعري، وذهب الشاعر إلى دمشق ليلقي قصيدته باسم العراق، لم يشأ أن يقصر الحديث على روائع الفيلسوف وآثاره، بل حلل آراءه الاجتماعية تحليلا شعريا يمس اللباب الخالص، ويشع مومضا بمختلف الإيحاء والإلماع، وكأن الشاعر الفرات يجد الراحة الهانئة في التنفيس عن مشاعر الممتزجة بمشاعر أبي العلاء، والناس هم الناس في كل زمان ومكان، فما أغضب المعري من أوضاعهم الشائنة قد أغضب الجواهري بعد ألف عام!! وكان لأدعياء الدين نصيبهم الوافر من النقد والتجريح، فحفلت قصيدة الجواهري بقوارس لاذعا تسيل دماءهم وتحطم كبريائهم، وتوغر صدورهم، وما عليها وقد وافق أبا العلاء في رأيه، وجرى معه في سنن واحد حين أهدى إلى روحه هذه الأبيات