للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحديث من ذلك وجدنا من الفرق بينهما مالا نجده بين الشعر القديم أو الجاهلي والشعر المولود في العصر العباسيوالأندلسي. فالطبيعة في الشعر القديم لم تتخذ موضوعاً خاصا وإنما كان الشعر يعرض لها في سياق غرض آخر كالغزل أو المديح أو الفخر، وكان يكتفي بأشكالها الخارجية لا يتجاوز الأفق الحس المشاهد إلى ما هو أبعد وأعمق. وبكلمة أخرى لم ير في الظواهر الطبيعية ما يحمله على التأمل العميق وما يوحي إليه من المعاني الخالدة والأفكار السامية، ولم يتغير الموقف في الشعر المولد تغيراً يصح أن يسمى اتجاها عاما، فظات الطبيعة عند المولدين وسيلة لا غاية ومعرضا لمشاهد جميلةلا مصدراً لأبحاث روحية. أما الأدب الحديث فلم يقف عند حد المشاهد التي تبهج النفس بل اتجه اتجاها عاما إلى ما للطبيعة من وجود معنوي يلذ للخيال الجولان فيه ويروق للفكر أن يسمو إليه.

ولهذا النظر الحديث إلى الطبيعة خصائص نحاول شرحها فيما يلي:

قد يقال أن الوصف ألحي للطبيعة يمتاز بملاحظة مالا يؤبه له عادة كانحناء السنبلة وتفتح البراعم وتبعثر أوراق الخريف وربوض البقرة تحت الشجرة واختباء الفراخ تحت جناحي أمها وتجاوب الأجراس في الواديولون العشب الذاوي وغير ذلك من مشاهد طبيعية متواضعة، وأنه يرتاح إلى الطبيعة الساذجة (البرية) دون المصطنعة المنمقة. فهو يؤثر الغاب على البستان، وشواهق الصخور على أسوار الحصون، وبحيرات الجبال على برك القصور. ورمال الشواطئ والصحاري على الساحات المعبدة في المدن والنوادي، والمجاري الطبيعية المتدفقة بين السهول والهضاب على الترع المحفورة لري الحقول والمزارع. بل إنه ليرى روعة خلابة في ما كان يهول القدماء كصخب العواصف وطغيان السهول وانقضاض الشلالات ووصف الرعود وتجهم الفدافد ووحشة الدياجي وتلاطم اللجج وما أشبه. وفي هذا القول شئ كثير من الصحة، على أن ذلك عند التحقيق ليس الفارق الرئيسي الذي يميز آداب الطبيعة في هذا العصر عنه في العصورالسابقة وإنما يميزه ما تقدمت الإشارة إليه من أن الأدب الحديث ينظر إلى الطبيعة نظراً معنويا يتجاوز أفق المشاهدات.

ومما لاشك فيه أن التصور المعنوي الذي تثيره المشاهد الطبيعية هو أقوى وأعم في أدبنا الحديث منه في أي عصر من عصورنا الماضية. ولهذا التصور أو النظر المعنوي نزعات

<<  <  ج:
ص:  >  >>