وصدق الإحساس بلبس حلة زاهية إذا اقترن بقوة التعبير وهي الميزة الثانية للشاعر. والناس من قوة التعبير في ليل مشكل فقد فهمها الكثيرون على غير وجهها الصحيح، فرأوها في ترادفه الغرابة في اللفظ، والقعقعة في الصوت، فكل بيت تحتاج فيفهمه إلى معجم لغوي فهو قوى كمعلقة لبيد، وكل شاعر يطحن في سمعك قرونا صلبة فهو متين رصين كابن هانئ الأندلسي في رأي آبي العلاء. وليست قوة التعبير لدى الجواهري من هذا الطراز العجيب، ولكنها تظهر في تماسك الألفاظ، وترابط المعاني مع الوضوح والإشراق. وهي بوضوحها لا تناسق مع السلاسة والسهولة، فقد تكون القصيدة من السهل الممتنع وهي آية في قوة التعبير، ورصانة التركيب، بل أن السلاسة طريق الشاعر المبتدئ إلى المقدرة والإبداع، فإذا سار في ميدان خطوات وجد قوة التعبير تأخذ بناصره وتشد أزره، مع أحتفاضه بالرونق الخالب والانسجام المترابط. وقد بدأ الجواهري قصائده سهلا رقيقاً وكلف بشعراء السلاسة كلفا زائد، وتغن بروائع الوليد وابن زيدون في القديم، وحافظ والرصافي في الحديث ونسج على منوالهم الرقيق المبدع في نظمه. وقد قرأت له بعض القصائد التي نظمها في صدر شبابه، فكدت أنسبها إلى البحتري بعينه، وأخص قصيدة (سامرا) الرقيقة العذبة التي قالها البحتري في القرن العشرين على لسان الجواهري ومنها:
إيه أحباي الذين ترعرعوا ... ما بين أوضاح الصبا وحجوله
إني وإن غلب السلو صبابتي ... وأعتضت عن نجم الهوى بأفوله
لتشوقني ذكراكمو ويهزني ... طرب إلى قال الشباب وقيله
أحبابنا بين الفرات تمتعوا ... بالعيش بين مياهه ونخله
بلد تساوي الحسن فيه، فليله ... كنهاره، وضحاه كأصيله
ساجى الرياح كأنما حلف الصبا ... ألا يمر عليه غير عليله
وكفاك من بلد جمالا أنه ... حدب على إنعاش قلب نزيله
وقد سار الجواهري مع سلالته الرقيقة عدة أشواط، حتى صاحبته القوة والتماسك. فأنفق له من ذلك كله الحان عذبة صادحة تختلف انخفاضا وارتفاعا باختلاف ما يعالج في شعره من الأغراض، وقد نسمع له بعض الجلبة الصاخبة في قصائده السياسية وهي صدى لما يهتز