وجلس أبو عامر وقد زادته هذه المواكب الطرية حنقا وحقدا، ونظر إلى اتباعه وفي صدوره مرجل يغلي (نار تشتعل. . وقال: (لقد جاء محمد إذا) وصمت قليلاً شأن من يفكر في أمر خطير ثم قال (واللات والعزى لن نتركه يجد في يثرب الراحة والاستقرار. . .) وأمن اتباعه في كلامه، وسلوا سيوفهم ورفعوها في الهواء، إيذانا بإعلان الحرب على محمد. . وانفرط عقدهم، وانصرفوا إلى بيوتهم. . وقد بيتوا أمرا.
(٢)
دخل (حنظلة بن أبي عامر) وكانه شاب ريق الشباب، جاري العود، غض الأهاب، فألقى أباه غارق في تأمله، يصعد بين فترة وأخرى زفرات حرى تنم عما يعتلج في قلب صاحبها من هم وكمد. . وكانت اساريره تفضح ما في نفسه من حقد وثورة. . فوقف حنظلة غير بعيد منه وألقى عليه تحية المساء، فلم يشعر به ولم يلتف أليه. . ثم ضرب بقبضته على فخذه وصاح كالمحموم (كلا! كلا! لن تكون أرض يثرب لمحمد موطنا سهلاً!!) ورفع رأسه فرأى أبنه حنظلة واقفا، فنظر أليه نظرات صارمة كأنها جمرات الجحيم ثم قال:
- أهذا أنت يا حنظلة! اين كنت وقد انقض السامر وغاب القمر!
- كنت في دار أبي أيوب الأنصاري أستقبل محمد وأحييه. لطالما تاقت نفسي أليه، وحنت روحي إلى لقائه. . كنت قبل أن أراه كسالك البيداء. . تحرقه شمسها، ويلفحه غبارها، ويغمره ظلامها، وتعييه رمالها. . فلما أبصرته رأيت النور الإلهي بشراً سويا؛ تحف به الملائكة الله، وترعاه عناية السماء. . وحين مددت يدي أليه وصافحني - روحي فداء له - ذهلت عن نفسي، ورأيتني طائر ترفرف بجناحيه في رياض الخلد. . فأويت إلى ظل محمد. . ونسيت متاعب الصحراء سمع أبو عامر كلام أبنه؛ فقام كمن يتخبطه الشيطان من المس ثم قال:
- ويل لك يا حنظلة! أو قد صبأت! أكفرت بآلهتنا؟ هل سحرك محمد فنسيتني وعصيتني؟ كيف ألقى بعد اليوم فتيان الأوس وقد جاء لمي العار؟!
- لقد آمنت بمحمد (ص) منذ بعثه الله وكفرت بهذه الأوثان التي لا تضر ولا تنفع ولا تغنى من الحق شيئاً. . . لقد طهرتني رسالة السماء من الجاهلية. . وأخرجني محمد من