على أنها تستطيع أن ترى خيالها كل حين إن أرادت، فأسرتها تحتفظ لها بصورة رسمها البارون جروس، في ميعة شبابها ووفرة صباها. وقد كان عن طريق غريزة ركبت فينا، نشعر بها ولا نستطيع أن نكيفها، أن رأت هورتنس دافراي بينها وبين صورة الجدة - التي صورت من ثلاثة وخمسين عاماً خلون - شبهاً قوياً. بل لتكاد - إذ تنظر إليها - ترى وجهها في مرآة صافية!
ذلك بأن الطبيعة يحلو لها في فترات مختلفة وفي أسرات خاصة، أن تعيد خلق وجوه درست وثوت بالتراب من أمد بعيد. . تعيد خلقها كما كانت، كأنها مثال يأخذ عدة أشكال من قالب واحد. ولكن المرء يسائل نفسه في تلك الأحوال: إلى أي حد يبلغ الشبه؟ أيقتصر على الوجه والخلقة؟ أم يسيطر على الأفكار والمشاعر؟ أم ينفذ إلى سواد الفؤاد؟! تلك مشكلة من مشاكل العلم الحديث يرمينا بها فتفتح أمامنا آفاقاً واسعة غير ذات بر ولا حدود.
وقبل أن تقرأ السيدة دافراي أولى الرسائل لمحت سكة كبيرة تتدحرج في الصندوق بجوار جداره الرقيق. فالتقطتها، وتفقدتها، فإذا بها رسم ملازم شاب، من ضباط الدولة الأولى، ذي شعر وحف جعد، وعينين يلمع فيهما بريق الشهامة وبأس الشباب. وجبهة قسمتها ندية جرح طولي إلى قسمين عريضين. ينبسط أكبرهما من حاجبيه إلى منبت الشعر بوسط المحيا. وجبهته عامة جبهة شجاع جسور. وأدمنت هور تنس النظر في الصورة، فجذبها بريق العينين، وفتنها سحر الجمال، وأخضعها بأس الهوى! فاستشعرت في قلبها آلافا من المشاعر المتضاربة المركبة، آلافا من الخوف وأخرى من سرور، إنها تحب! ولكن ويلها من تحب!؟ فتى مرت على وفاته حقب وأعوام، وتوالت على قبره أحداث ورجام! فتى دالت دولته، وراحت صولته، وقدر لها ألا تراه على الأرض حيا!. . . ولكن كثيراً ما لعبت الجذوة التي تلهبنا بالحقائق والأفكار! وكثيراً ما كانت الحقيقة شيئاً مستحيلاً، فليس ضرورة أن يكون الشيء ممكناً حتى نقول بأنه حقيقة.
وإنه لمن الضلال البعيد أن نقول بأن هوتنس قد فجئها الحب، ولكنها كانت تشعر في قلبها بحب قديم، له آلامه وآماله، ولسبب ما خمد وانطفأ بل نزع من القلب والذهن انتزاعاً. ولكنه استعر فجأة، وقفز إلى ذهنها وقلبها معاً يعذب هذا بالذكريات، ويكوي ذاك بالشوق