وتفقدت الرسائل فإذا بإمضاء واحد يذيلها جميعاً. وقرأتها في شغف وجنون. ثم كانت لا تني عن القراءة والإعادة كأنها محمومة. ولم يكن عسيراً أن يجمع المرء خيوط القصة التي أنجبت تلك الرسائل
تزوجت جدتها السيدة إيوودكسي تيرين من أحد متعهدي الجيوش. وكان كهلاً أنانياً، أفسدته الخلاعة، وأضواه المجون. وقد مكنتها مهنة زوجها من الاتصال بضباط الجيش. فهام بحبها ملازم شاب من جند نابليون، يدعى بول فراند وجرفها تيار هواه. فلم تستطيع أن تقاوم أو تتشبث. فسايرت التيار في هوادة وإخلاص. فكان جميلا أن ترى عاشقين شفهما الهوى وبرح بهما الغرام يتعاطيان كؤوس الوصل مترعة هنية، وينهلان من منبع الحب الخالص. فيحلمان بسعادة خالدة، ونعيم مقيم. غير أنهما - طوال الوقت - يشعران بأجنحة الموت السوداء تصفق فوقهما كأجنة الخفاش الأعمش، وبإنسان بمسوح الردى الطخياء تهددهما بالبعد والحداد.
وسرعان ما تبددت الأحلام، وحلت المخاوف! لقد فرق الدهر المشتت بينهما أيام (أوسترلتز) وإبينيا وإيلو، أيام فريدلند ووجرام. . . وكانا قليلا ما يلتقيان - في تلك الأعوام العصيبة - لحظات معدودات. ولكن فراديير كان يختلس ما بين واقعتين أو ما بين نصرين فيسيطر لها - وهو أشعث أغبر - آيات الحب والهيام. ويبثها وقدة الشوق وجدوة الهوى. يسطر لها رسلات مترعة أسى وعذاباً، تقرأها الآن حفيدتها الصغرى بين دمع وأكف وقلب خافق، بين صدر يعلو ويهبط كالموج، وأنفاس حرى تذهب وتجئ. كان من أجل إيودكسي - كما كان من أجل نابليون - أن خاض فرانديير المعارك الدامية، وشرق في البلاد وغرب، وقاسي كثيراً واصطبر. كان يريد أن ينصر العاهل حتى النفس الأخير، وإن يكسب لإيودكسي عرشاً فحيما.
ومات في تلك الأثناء زوجها. وجن فرادنديير الأمل، وحن إليها ففكر في الرجوع إلى الوطن. وبينما الأمل ينمو ويوطد الجذور، والشوق يستعر والقلب خفاق، إذا به يقع في الميدان يتشحط في دمه المغرم، وإذا برصاصة تخترق صدره العاشق وتسكت قلبه الخافق. فثوى في حزون سمولنك الباردة وحيداً، لا قلب يخفق له، ولا دمع يترقرق في المحاجر