أسى عليه. ونعى فرادنديير زميل ائتمنه على سر قلبه وذات صدره. وكان خطاب الزميل مع الرسائل الأخرى في الصندوق الصغير.
ما في هذا الأمر من شيء غريب. ولكن الغريب حقاً أن يتراءى لهورتنس دافراي أن التوسلات والذكريات التي حفلت بها الرسائل. وإن الجوى والهيام كل ذلك لها هي من دون جدتها إيودكسي تيرين. واندفعت روحها الظامئة ناشدة ذلك الحب تاركة وراءها الحقيقة ونواميسها، وحلقت بالغرام في الخيال غافلة عن الواقع ونظمه، وتمادت في ذلك فاستباحت لنفسها أن تخلق المعدوم وإن توجد المستحيل! ولم تكتف بذلك بل وهبت نفسها لفرانديير هذا دون أن تفكر لحظة أنه مات منذ أمد بعيد، في تيه المجد وضجة النصر المبين. واعتقدت أنه يوماً موافيها، وأنها ملاقيته بعد أمد قريب أو بعيد، وأنها مسلمة عليه ومصغية لحديثه الحنون، ولم يخامرها في يقينها هذا شك، ولا وجدت على عقيدتها غباراً. . . رأت فأحبت فأغرمت فتعذبت ثم راحت تنتظر الحبيب بثقة واطمئنان!
لو رأى النائم المعجزات في حلمه لما استغرب، لأن النفس تكون متطلقة من الواقع ونظمه، والحقيقة وأشراطها. وكذلك لم تستغرب هورتنس دافراي - حينما كانت تزور مدام دي سيمور - أن تعلن الخادم قدوم السيد بول فرانديير
راته يدخل، هو بعينه الذي أحبت وتحب: بول فرانديير! بول فرانديير بشعره الوحف المجعد، وعينيه السوداوين، ثم بندبة الجرح في جبهته العريضة. . . لم يكن هناك فرق سوى انه يرتدي زي ملازم من مدفعية الفوج الإفريقي الأول. . . كلا! ولم تعجب مدام دفيراي إذ تراه، فقد كانت تنتظره بصبر واطمئنان. على أن قلبها غاص في حنايا صدرها البض، وراح يحطم ضلوعها بخفقه الشديد، وودت إن لم تكن بين ذلك الجمع من الرجال المتألقين وتلك الثلة من النساء ذوات الأساور والحلي، فتقفز كالغزال اليه، ثم تغيب في أحناء صدره الرحيب قائلة (هاأنا ذي)
وانحنى فرانديير لعمته مدام سيمور. ثم يرى هورتنس فجأة، فيبهت، لا عرف لديه ولا نكر، وغاض لونه واصفر وجهه، واستطاع بعد لأي أن يعتمد على الحائط وإن يجر قدمه الواهنة إلى مخدع كان لحسن الحظ خاليا، فتخاذل وارتمى على بساطه الثمين. ودهشت مدام سيمور من سلوكه الناشز عن العرف والتقليد، فتعقبته إلى حيث تداعى يئن أنينا.