للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ودخلت المخدع ساعة رانت عليه صفرة الموت وغاب عن الوجود.

واستدعت عمته طبيبا مشهورا من أضيافها. ولكنها أحست - بغريزة المرأة - أن هناك سرا لا يحسن ان تفض غلفه لأحد غريب. فجثت على العليل تدلك رأسه وصدغيه، وتنشقه بعضا من ملح قوي مفيق. ثم رفعت رأسه براحتيها واضعة تحتها وسادة من حرير غال.

ولما أن أفاق وثاب إليه الوعي، دس يده في جيب صداره وأخرجها تحمل رسما على ورق قديم حمله قبلات والهة، فأراه عمته، ثم صاح في فرح المجنون وطرفه غريق في الدمع الهتون: (أي بلانش! بلانش! إنها تحيا!) فأجابته عمته: بلانش! بالطبع! إن هورتنس دافراي تحيا، وهي فوق ذلك صديقتي. ولكن قل لي لم تدخل في زي الدولة الأولى؟ على انك لم ترها مرة واحدة! فما معنى تلك النوبة التي انتابتك من لحظة؟ فقال فرانديير:

- أني لم أرها إلا الآن ولكن روحي هامت بها من زمن بعيد، وأوسعتها حبا وعشقا. وقد استقر حبها بين جوانحي وفؤادي، وسرى بين لحمي وعظمي. لم يفارقني ذلك الرسم منذ خلص إلي وتناهى من ثلاثة أعوام خلون. واصطحبني في الفتح والحروب، في النفق والخنادق، فكان رسول السلام إلى قلبي الموله الجازع إذا ما اشتد النزال وحمى الوطيس، وكان بشير الحصانة إذا ما رنق على الرؤوس الموت ليختار على أي يقع. كان فيض الأمل ونبع الحياة، كان كل هذا برغم ما كنت اعلم من موت صاحبته. ولكني لا املك من امري شيئا. وكنت أعلل نفسي أني ملاقيها في جنان الرحمن حيث لا تعجز اللقيا. . . ولم يكن خيالي يستبيح لنفسه - وهو الشرود الجموح - أن يتصورها حية في عصرنا هذا. فهو إن صورها يصورها نائمة بجلال بين الورود والزهور في جدثها العاطر. فيطير لبي شعاعا، وتنسرق نفسي هياما وحبا!

- هذا حسن! ولكنك لم تحدث لي من أمر الصورة ذكرا. كيف تناهت إليك؟

- ذلك أمر بسيط! فقد كان لدى أبي - في مكتبته - مكتب مهجور. طلبته منه كي استذكر عليه فأعطانيه ولم يمهل. وقال لي انه من مخلفات - سميي - عمه الأكبر بول فرنديير. كان ملازما في جيش الدولة الأولى. ومات في سمولنسك في السابع عشر من سنة ١٨١٢. وكانت مفاتيح المكتب ضائعة فاضطررت إلى كسر أغلاقه، وفي أحد أدراجه الخفية عثرت يداي المجدودتان بتلك الصورة المقدسة، ولقد عشقتها من ذلك الحين

<<  <  ج:
ص:  >  >>