للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ثم سافرت إلى ديروط، تلك المدينة التي كانت حديث الصحف في الشهور الماضية، فلقيت قوما يختلفون كل الاختلاف عمن لقيت في الإسكندرية.

لقيت قوما يكدحون في سبيل العيش والرزق، يعملون سحابه يومهم. . . فإذا أمسى المساء التقوا على (القناطر) التي هي أبدع عمل هندسي في الصعيد بعد خزان أسوان وقناطر أسيوط

رأيت أهل الصعيد في نقائهم وطهرهم وبساطتهم، يمضون في الحياة لا يتكلفون، قد أخذوا من الحضارة بطرف، ولكنهم ما زالوا يضنون عليها بالعرض والشرف والخلق والتقاليد.

رأيت (المئذنة) العالية وسمعت صوت النداء باسم الله ينبعث من فوقها فيهز النفس من الأعماق، ويرسل إلى الكون كله فيضا من الحب والسلام. . . هذه مئذنة الجامع الكبير، من أعلى مآذن القطر كله؛ قد بنيت بالقرميد الأبيض والأحمر على هيئة غاية في الرواء والإبداع، وكان مقامي في بيت قريب منها على الضفة الثانية للترعة الساحلية، فما كنا ألقى نظري من النافذة مرة، جالسا أو قائما، إلا كانت تتراءى لي فتهزني، وتملأ نفسي بذلك الإحساس الروحي الغامر. . فإذا واجه فرقتنا المؤذن في صلاة الفجر، انبعث صوته رطبا نديا. . كأنما يسكب على هذا الصمت والسكون الضياء والنور، فما ألبث أن أهتز في مضجعي أردد اسم الله. . .

ألا ما أبعد الفارق بين ما تثيره ديروط وما تثير الإسكندرية في النفس؛ إن هذه تعطيني معنى الروح كاملا حيا، أما تلك فلا تترك في نفسي إلا متاعب الصراع بين الهوى والحق، وبين القلب والغريزة. . .

وفي ديروط كنت أطلق الطرف بعيدا في تلك المروج الخضراء أتزود وأقتات من جمال الريف، وهناك في أطراف المدينة حيث تلتقي الحضارة بالريف، والصناعة بالزراعة. . . كنت أجلس الساعات الطوال أنظر وأسلح بعيداً حتى ردني عن أفكاري قطار (الديزل) السريع وهو ينهب الأرض في طريقه إلى القاهرة. . .

وفي المساء كنا أسير مع صديقي (محمد زكي) نتحدث عن الرافعي. . . إن صديقي لا يمل الحديث عنه، إنه يحبه غاية الحب، ويرى يومه عبثا من العبث لو أنه انقضى دون أن يقرأ له فصلا أي صفحة أو كلمة أو (كليمة)

<<  <  ج:
ص:  >  >>