للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إن صديقي من أدباء الريف المغمورين، الذين قضت عليهم ظروف الحياة أن يعيشوا هناك، حيث لا تصفو الحياة كثيرا للأديب الذين يريد أن يصنع المجد. . .

وفي ساعات الغروب على الإبراهيمية أو على اليوسفية، تلبس ديروط حلة قشيبة من الجمال. . الحزين. حيث نعود بالذاكرة كرة إلى ما قبل عشرين عاما من العمر، عندما كنا نخطو إلى هذه المدرسة القائمة تجاه مبنى الري. . . نلتقي أول دروس العلم، ودروس الحياة

أما ذلك المساء، فقد كان حزينا حقا، بالغا غايته في الظلمة والحزن. فقد انطلقت إلى حيث كان للقلب قصة منذ سن السابعة عشر، ولما مرت العربة بنا على ذلك المكان الذي يعيش فيه ذلك الروح الحزين. هتف القلب: ترفق أيها السائق؛ فإن لنا هنا ذكرى عزيزة.

كان الوجه الأول الذي لقيني بين ظلمات الأحداث، ومتاعب الشباب الباكر، فأحال دنياي جنة وارفة الظلال، وأمد روحي بذلك الرحيق القدسي الذي يحسه الشباب الحدث، الذي يتطلع إلى المجد، حيث يلتقي مصادفة بإنسان وهبة الله فيض الجمال وفرط الحسن. . . وأمده بذلك الروح الشاعر الصادق، بحيث لا يخرجه عن تقاليده وخلقه، ولا يصرفه عن طهره ونقائه. . .

ولكن الظروف تقصر، والأقدار تأبى، فإذا به يمضي في طريقه وأمضي في طريقي. وأظل على الرغم من مرور بضعة عشر عاما أحس كأنما كان الأمر بالأمس، مازال قائما في النفس لا يبرح، وما تزال صورته في الضمير لا تزول. إذا هتف الهاتف باسمه ظننت أنه هو، وإذا خطر من يشبهه ذكرته، وعدت بالخيال مرة أخرى إلى أيامه الحلوة، عليها سلام الذكريات.

وبالرغم من الزمن البعيد، فهو ماثل في القلب، يذكرني بالماضي البعيد، وكأني به أنتظره وأترقبه؛ وأرجو على مر الزمن أن يتاح لي مرة أخرى أن ألقاه. . .

كان ذلك المساء قاسيا على نفسي، فقد كنا في السيارة نتذاكر قصيدة الأستاذ محمود محمد شاكر (اذكري قلبي فقد ينضر من ذكراك عودي). . . وبينا كان صاحبنا يرددها، كنا نمر في نفس المكان الذي يتنسم فيه شاعرنا أنفاس الحياة.

والحق أن (ديروط (أعادت إلى نفسي الذكريات التي طوتها أعباء الحياة في القاهرة؛ فما

<<  <  ج:
ص:  >  >>