تفكر وتقدر. وقليل أولئك الذين يفرضون أنفسهم وأدبهم عليها وعلى الأدب فرضا. وهم مع ذلك لا يكاد يخلو الأمر من أن يكونوا متأثرين تارة ومؤثرين أخرى. وإلى هذا فإن حياة الأدب ككل حياة يختلف عليها ما يختلف على سائر الكائنات الحية من قوة وضعف وتطور في الغرض والوسيلة والاتجاه. إلى غير ذلك من ملابسة الزمن ومخالطة الحضارة التي يستمد الأدب جدته منها، والتي تسمه آخر الأمر بميسمها في اللفظ والمعنى والهدف والأداء. وإذا جاز لنا أن نشبه الأدب بالإنسان قلنا إن يلابس الأدوار التي يلابسها الإنسان من طفولة فصبا فشباب فكهولة فشيخوخة فموت. ولسنا نريد أن نقول إن الأدب عابث لاغ في طفولته كالطفل. أو أنه قوي طاغ في شبيبته كالشباب وإنما نريد أن نقول إن الأدب كائن حي نام يحمل في أدوار نموه عناصر الموت والفناء. وقد تطول أو تنصب إحدى هذه المراحل أو كلها مجتمعة بالنسبة إلى عوامل حضارية وأخرى ثقافية واجتماعية، وإن كان لا تخلو كل مرحلة من آحاد يعيشون بأذواقهم وعقولهم في بيئات سلفية أو مستقبلية. ففي عهد الطفولة تظهر الفطرة بجميع مميزاتها من حسنات وسيئات لا تكاد ترتفع ببصرها إلى السماء ولا تهبط إلى الأغوار، وإنه تتخذ ما يحيط بها من الحيوان ونبات وجماد موضوعا للقول وأداة للتمثيل والتخيل. وهي لا تنزع إلى غايات اجتماعية أو إنسانية. ولا يعود بصرها إذا امتد شؤون القبيلة وما هو من ذلك بسبيل. تؤثر الكلام والوفاء؛ وتأنف أن تتقيد بشيء إلى ما يقيد به نفسه الرج الحر. وأنت لا ترى عندها فرقا كبير بين الإباء والجماح. أو بين الكرم والتضحية. أو بين الوفاء والفداء. أو بين الشجاعة ووالتهور. أو بين الصراحة والغلظة والفظاظة. وبالتالي فهي تتسم بالصدق ودقة الملاحظة وحرارة الإحساس ومعاطفة اللغة عطافا قلما نشعر بمثله نحن الآن. وهي تحن حنينا قويا إلى تحقيق قول القائل
أطيب الطيبات قتل الأعادي ... واختيال على متون الجياد
ورسول يأتي بوعد حبيب ... وحبيب يأتي بلا ميعاد
ثم إن شعر الرثاء فيها لا نكاد نجد له مثيلا في الصدق والحرارة في سائر المراحل والعهود التي تليها جميعا. وهي جامدة لا تكاد تتطور إلا بحدث يهزها هزا عنيفا، وينال منها ومن تقاليدها وعرفها نيلا شديدا. ولكنها تاقومه أحيانا وتذعن له حينا. يظهر ذلك في حياة الأدب