لست أجانب الحقيقة لو قلت: إن إذاعتنا المصرية (الغراء) أوشكت أن تعلن إفلاسها، وتثبت أنها عاجزة عن مسايرة أهزل إذاعات العالم جميعا. . .
إن برامج إذاعتنا الغراء لا تشجع مطلقا على الإقبال عليها، ولا على تتبع محتوياتها، فتسعة أعشارها حشو من الأغاني الغثة، والتمثيليات التافهة التي لا تثقف عقولا ولا ترقي أفكارا ولا تنهض بشعب
لا تسل عن ركن الأطفال الذي هو مزيج من الأناشيد المكررة، والقصص المفزعة، والأصوات المنكرة، ولا تسل عن ركن المرأة الذي لا يتصل برسالة المرأة في الحياة إلا من جانب الكماليات الأرستقراطية. ولا تسل عن ركن الريف الذي هو خلو مما يفيد الريف ويوضح آلامه ويحل مشكلاته وينهض بأهله. . . لا تسل عن ركن من هذه الأركان أو غيرها حتى لا تتميز من الغيظ حسرة وأسفا على إذاعتنا الغراء. . .
لعلك اضطررت اضطرارا ليلة تأليف الوزارة الهلالية الثانية إلى تتبع برامج الإذاعة لعلك تستريح إليها ولو خلال لحظات، ولعلها تنال منك ولو ذرة واحدة من رضاك، فماذا سمعت في تلك الليلة المشهودة التي تستمع فيها بلاد العالم إلى إذاعة مصر، فتقف على حقيقة الأحوال فيها، والتقلبات السياسية المفاجئة. إن إذاعتنا لم تكن - بالطبع - مستعدة لتسترنا في مثل هذه الليلة، فأبت أن ترحمنا من أغاني فيلم (في الهوا سوا) وفيلم (من القلب للقلب)، وكل ما تكرمت به علينا أن أذاعت علينا وثائق استقالة الوزارة السابقة، وتأليف الوزارة اللاحقة، دون أن تتكرم ولو بتعليق واحد سياسي على تقلبات السياسة في مصر، وهل هي في مصلحتها أم في غير مصلحتها. . .
أما بقية الليلة فقد قضاها (ميكرفون) الإذاعة الغراء بالجمالية بالقاهرة ليذاع علينا من هناك الاحتفال بمولد العارف بالله (سيدي) مرزوق الأحمدي، وواصل الشعب المصري الكريم السهر إلى قبيل الساعة الواحدة صباحا يستمع إلى (أبيض الوجه، وجميل القد، وأحمر الوجنتين، وأكحل العينين) من قصائد وتواشيح الشيخ طه الفشني.!
وبعد فإن المذياع ليعتبر من أهم وسائل النهوض بالشعوب والتقدم بها، والعمل على رقبها ورفع مستواها الثقافي. ولكن يظهر أن مصر هي البلد الوحيد الذي كفر بهذا الاعتبار وتنكر له وسخر منه؛ لأنها نكبت بإذاعة لا تتساوى مع إذاعات العالم إلا في الاسم وكفاها