هذا الحرف (أي الشهرة) لا يصيب لغة، ولا تكون الشهرة في الفصيح إلا بالعيب والعار والفضيحة ولكن الألسنة أدرتها على هذا المعنى، فكتبنا للناس ما يفهموا.
إن الشهرة سراب زائف، إنها مثل (المستقبل) الذي يركض وراءه الناس كلهم فلا يصلون إليه أبدا، لأنهم إن وصلوا إليه صار (حاضرا) وعادوا يفتشون عن مستقبل آخر يعدون إليه كحزمة الحشيش المربوطة برأس الفرس يسعى ليدركها وهي تسعى معه أبداً!
إنني أقول هذا من أعماق قلبي مؤمنا به؛ ولقد مر علي زمان كان أحلى أماني فيه أن أسير فيشير إلى الناس بالأيدي يقولون هذا علي الطنطاوي، وإن أعلو خطيبا كل منبر، وإن أجد أسمي في كل صحيفة، وكان قلبي يتفتح للجمال، ويستشرق للحب، فلما جربت هذا كله، وذقت لذته، صار كل ما أرجوه أن أتوارى عن الناس، وإن أمشي بينهم فلا يعرفني منهم أحد.
لقد مر بي أكثر العمر، ورأيت الحياة، ونلت لذاتها وجرعت آلامها، لم تبق متعة إلا استمتعت بها، فلا اللذائذ دامت ولا الآلام، ولا الشهرة أفادت ولا الجاه، ولقد شهدت حربين عالميتين، ورأيت تعاقب الدول على الشام من العثمانيين إلى الفرنسيين إلى من جاء بعد، ومن قام ومن قعد، ومن أتى ومن ذهب، ولو أردت الوزارة وسلكت طريقها لبلغتها من زمان كما بلغها من مشي على أثري في الدراسة وفي الحياة، ولو شئت لكنت من المشايخ الذين تقبل أيديهم ثم تملأ بالمال، فيملكون الضياع والسيارات، ويصيرون بحرفة الدين من كبار أبناء الدنيا؛ ولكني ما وجدت شيئا يدوم. تذهب الوزارة فلا تترك إلا حسرة في نفوس أصحابها، ويصحو الناس فيعلمون أن الذي يأكل الدنيا بالدين، لا يمكن أن يكون من الصالحين المصلحين، فزهدت في المناصب والمراتب والمشيخات، وهانت على وصغرت في عيني؛ ولم يبق لي من دنياي (الآن) إلا مطلب واحد: يقظة قلب أدرك بها حقائق الوجود، وغاية الحياة، وأستعد بها لما بعد الموت، وهيهات يقظة القلب في هذا العالم المادي!
إن الذي يبلغ ذروة الجيل تنكشف له الجهة الأخرى، فيرى ما بعد الانحدار، وأنا قد بلغت ذروة العمر وانحدرت ولكني لم أبصر شيئا، إن الطريق مغطى بالضباب، وقد أضعت مصباحي في زحمة الحياة، ومعترك العيش.