لقد سبق لي أن زعمت أن طبيعة قيام الحكومات الحزبية لا تدعو إلى شيء من كل هذا الاضطراب والتجلجل في أخلاق الموظفين ولا فيتصرف الموظفين، بدليل تعاور الحكومات الحزبية للحكم في جميع البلاد الدستورية، ومع هذا لم يسمع عن حال الموظفين بعض ما نسمع ونرى في هذه البلاد. وعللنا هذا بأننا نجتاز مرحلة سياسية خاصة لا أظن أنه يجتاز مثلها الآن بلدا آخر من بلاد الله.
وبمناسبة الحديث في اعتماد الحكومات القائمة مشروعات سلفها بالتغيير أو التعطيل، أذكر أن المستر سنودن، وهو من تعرف جبروتا وعظم كفاية، لما تولى وزارة المالية الإنجليزية في وزارة العمال، أراد أن يغير في شكل الميزانية، فيقدم هذا الباب على ذلك الباب، ويضيف من هذا الفصل لهذا الفصل، صمد له الموظفون الفنيون ومنعوه هذا منعاً، وقالوا له: إن لك أن تصنع بسياسة الدولة المالية ما تشاء، فتفرض من الضرائب ما تشاء، وتحط منها ما تريد، وأن تزيد ما ترى زيادته من وجوه النفقات، وتنقص ما ترى نقصه لك كل هذا، أما أن تدخل في الوضع الفني للميزانية فذلك ما لا سبيل لك إليه بحال! ويقتنع الرجل ويعدل عن هذا بنيته. فمتى نرى موظفينا على بعض هذه المتانة والثبات والإيمان؟
الذي أعتقده أن مثل هذا من السهل الميسور إذا أمن الموظفون سطوة الحكومات الحزبية بهم يوما يعصونها في طاعة الواجب والحق والقانون. فإذا زلت قدم الموظف، بعد هذا، أو مانع على ذمته وما ائتمن عليه من الحقوق العامة، كان جزاؤه النكال والوبال. فهل نطمع من حكومتنا في أن تعالج هذا فيما أخذت نفسها به من وجوه الإصلاح بعد إذ تفرغ من مهمة التطهير، واستخلاص الأداة الحكومية من هذا الفساد؟
هذا ما كان من شأن الموظفين، أما شأن الأعيان في بلادنا فأعجب وأغرب، إذا منعنا الحياء من أن نقول إنه أخزى وأفحش. فإننا إذا تمحلنا بعض المعاذير لأولئك من الحرص على مناصبهم، وإمساك أسباب العيش على أزواجهم وبنيهم، فإننا لا يمكن أن نصيب عذرا لهؤلاء. اللهم إلا إذا كان من بين الأعذار السائغة حاجة المرء إلى الجاه والسطوة، واغتصاب المنافع العامة، وقضاء حاجات الأهل والأقربين، ولا ينال هذا إلا إذا وضع على رأسه ذمته، وعقيدته، وكرامته، وراح ينادي عليها فعل الباعة المضطربين بسلعهم في الأسواق.