للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بتاريخه وأدبه، لم يكن عهدا إسلاميا ولا عهدا طبيعيا معقولا؛ فلا يرضاه الإسلام، ولا يقره العقل، بل إنما جاء الإسلام بهدمه والقضاء عليه، فقد كان هذا هو العهد الذي بعض فيه محمد صلى الله عليه وسلم فسماه الجاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه - ككسرى وقيصر - وعلى أثرتهم وترفهم أشد الإنكار.

إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان وفي أي زمان، ولا سبيل إليه إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها أو مصابة في عقلها أو فاقدة الوعي والشعور أو ميتة النفس والروح.

إن هذا الوضع لا يقره عقل. ومن الذي يسوغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع الطعام والشراب ويموت آلاف جوعا ومسغبة؟ ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك أو أبناء ملك بالمال عبث المجانين، والناس لا يجدون من القوت ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر جسمهم؟ ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة - وهي الكثيرة - الإنتاج وحده والكدح في الحياة والعمل المضني الذي لا نهاية له، وحظ طبقة - وهي لا تجاوز عدد الأصابع - إلا التلهي بثمرات تعب الطبقة الأولى من غير شكر وتقدير وفي غير عقل ووعي؟ ومن الذي يسوغ أن يشقى أهل الصناعة، وأهل الذكاء، وأخل الاجتهاد، وأهل المواهب، وأهل الصلاح، وينعم رجال لا يحسنون غير التبذير، ولا يعرون صناعة غير صناعة الفجور وشرب الخمور؟ ومن الذي أن يجفى أهل الكفاية وأهل النبوغ وأهل الأمانة ويقصوا كالمنبوذين، ويجتمع حول ملك أو أمير فوج من خساس النفوس وسخاف العقول وفاقدي الضمائر ممن لا هم لهم إلا ابتزاز الأموال وإرضاء الشهوات ولا يحسنون فنا من فنون الدنيا غير التملق والإطراء، المؤامرة على الأبرياء، ولا ينصفون بشيء غير فقدان الشعور وقلة الحياء؟

إنه وضع شاذ لا ينبغي أن يبقى يوما فضلا عن أن يبقى أعواما.

إنه إن سبق في عهد من عهود التاريخ وبقي مدة طويلة فقد كان ذلك على غفلة من الأمة أو على الرغم منها، ولسبب ضعف الإسلام وقوة الجاهلية، ولكنه خليق بأن ينهار ويتداعى كلما أشرقت شمس الإسلام واستيقظ الوعي وهبت الأمة تحاسب نفسها وأفرادها.

فالذين لا يزالون يعيشون في عالم (ألف ليلة وليلة) إنما يعيشون في عالم الأحلام، إنما يعيشون في بيت أوهن من بيت العنكبوت، إنما يعيشون في بيت مهدد بالأخطار لا يدرون

<<  <  ج:
ص:  >  >>