ولم يدخر وزيره الصالح وابن عمه عمر بن عبد العزيز وسعا في بذل النصيحة له، ولكن جذور الشر كانت قد بلغت الأعماق في كل مرافق الدولة. ولم يكن عجبا - آخر الأمر - أن تنهار دولة الأمويين بعد اثنين وثمانين عاما، حملت خلالها جراثيم الانحلال والتدهور، فقد سئل حكيم: ما سبب زوال ملك بني أمية مع كثرة العدد والعدد، والأموال والموالي؟ فأجاب، وأحسن الجواب: لأنهم أبعدوا أصدقائهم ثقة بهم، وقربوا أعدائهم جهلا منهم، فصار الصديق بالإبعاد عدوا، ولم يصر العدو بالتقريب صديقا.
وفي ذات يوم دخل الملك الفتى. مدينة رسول الله فسأل: هل بالمدينة أحد من أصحاب رسول الله؟ فقيل له: أبو حازم، فأرسل في طلبه، فلما دخل عليه سأله: يا أباحازم، ما لنا نكره الموت؟ فأجابه: لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنقلوا من عمران إلى خراب. . . وأغضى الملك الفتى، ثم أخذ يستزيد أبا حازم: وكيف القدوم على الله؟ فقال: أما المحسن فكغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكآبق يقدم على مولاه
وبكى أبو أيوب، ثم قال: يا ليت شعري، ما لنا عند الله؟. . فقال له أبو حازم:
أعرض عملك على كتاب الله. فسأله: في أي مكان أجده؟ قال: في قوله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم). فقال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: قريب من المحسنين. فقال: فأي عباد الله أكرم؟ فأجاب: أولو المروءة
وكان وزيره الأمين شديد الحرص على قول الحق، تأخذه في فيه لومة لائم. اصطحبه يوما في الحج، فراع الخليفة عدد الرمل والحصى من رعاياه، فتلفت إلى وزيره وقال: ألا ترى هذا الخلق الذي لا يحصي عددهم إلا الله، ولا يسع رزقهم غيره؟ قال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء رعيتك اليوم، وهم خصماؤك غدا عند الله. فبكى سليمان اشد البكاء. وقال: بالله أستعين.
وفي الواقع أن لحظات الندم التي كانت تطرق ضمير الملك الفتى، لم تكن غير فواصل عنكبوتية بين طغيان موصول، واستبداد متأصل، فقد أسرف يوما على الدنيا، فأعجبه ما صار إليه من الملك الذي نسجته دماء الشهداء، ودموع الفقراء، فنسى هذا كله أو تناساه، وتلفت إلى الوزير المؤمن وقال له: يا عمر، كيف ترى ما نحن فيه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا سرور لولا أنه غرور، ونعيم لولا أنه عديم، وملك لولا أنه هلك، وفرح لو