للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لم يعقبه ترح، ولذات لو لم تقترن بآفات، وكرامة لو صحبتها سلامة.

وبكى سليمان ما شاء ولم يكد يضيق مما في حتى دخل عليه أعرابي يقول: يا أمير المؤمنين، إني أكلمك بكلام فاحتمله، فإن وراءه إن قلبته ما تحب. فقال: هاته يا أعرابي. فقال الأعرابي:

إني أطلق لساني بما خرست عنه الألسن، تأدية لحق الله، أنه قد اكتنفك رجال فد أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنيا لك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، وخافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة، وسلم للدنين، فلا تأمنهم على ما استخلفك الله عليه، فإنهم لن ينالوا بالأمانة، وأنت مسؤول عما اجترموا، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس عند الله عيبا من باع آخرته بدنيا غيره.

عندئذ صعر الملك الفتى خده للأعرابي الذي قدم ينصحه بتطهير حاشية السوء، وبطانة الفساد، واستكثر أن يكون ذلك التوجيه منبعثا من أعرابي، فقال: أنت، ما أنت بأعرابي، فقد سللت لسانك علينا كما تسل سيفك. فأجابه في جرأة: أجل يا أمير المؤمنين، لك لا عليك.

ويشاء مالك الملك أن تنقشع هذه الغمة الغليظة التي جثمت على صدر الخلافة، فأحس الملك الفتى بقرب منيته، وآن له أن يستخلف بعد أن عهد إلى ابنه أيوب بالخلافة لولا أنه مات في حياة أبيه، ولم يبق لسليمان إلا صبية صغار، أمر بأن يعرضوا ما عليه في أردية الخلافة، فإذا بهم لصغر أسنانهم لا يحتملون ما لبسوا، وأخذوا يسحبونها سحبا، ويتعثرون فيها، فنظر إليهم وهو يقول في حسرة:

إن بني صبية صغار ... قد أفلح من كان له كبار

فقال عمر: يا أمير المؤمنين، يقول الله تعالى (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى). فلم يلتفت إليه الملك المريض وأمر بأن يعرض عليه أولاده مرة أخرى عليهم السيوف ذات الحمائل، فعرضوا. فإذا بهم يتكفأون بها، ويجرونها، ولا يطيقون حملها، والسير بها، فنظر إليهم، والدمع يغالبه، وهو يقول:

إن بني صبية صيفيون ... أفلح من كان له ربعيون

وأعاد عليه عمر ما قال آنفا، فأغمض جفنيه قليلا، وكأنه أقتنع بأن الخلافة زائلة عنه وعن

<<  <  ج:
ص:  >  >>