الدنيا في وجهها، وأظلم الكون أمامها، وجمدت الدموع في عينيها، فقد رأت - ويا لهول ما رأت، أبصرت زوجها (عمروا) وابنها (خلادا) مضرجين بالدماء، وقد فاضت منهما الروح إلى السماء، فهدها المصاب الرهيب، وأشجاها الدم الصبيب، وغرقت في لجة الأسى، وإذا بصوت الرسول الحبيب يخاطب الجاهدين فيقول (والذي نفس محمد بيده إن منكم من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح) فمسح هذا الصوت ما بنفسها من أشجان، وكان بلسم جراحها، وعزاء مصابها، فاحتسبت مصيبتها عند ربها، وتقدم رسول الله من الشهيد الباسل، وكشف عن وجهه وقال له:(كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة).
- ٦ -
وعند الأصيل الكثيب، وقد مالت الشمس للغروب، وأقبل الليل ينشر أمامه ودائه الأسود القاتم. كانت (هند) المفجوعة، تتوكأ على عصاها، وتجر وراءها بعيرا حملت عليه شهدائها، وزوجها وأخاها وولدها، ميممة شطر المدينة، لتدفنهم هناك قريبا منها، فرأتها السيدة عائشة وكانت تسقي العطاش، فسألتها عن الخطب الذي حل بالمسلمين، فقالت لها:
- يا أم المؤمنين! أما رسول الله فسالم، وكل مصيبة بعده هينة، وأتخذ الله من المؤمنين شهداء
- ومن هؤلاء على البعير؟
- أخي عبد الله وولدي خلاد وزوجي عمرو بن الجموح وبينما السيدة عائشة تعزيها في شهدائها، جاء صائح يقول (أمر رسول الله بان يدفن الشهداء في موضع استشهادهم، فاتجهت شطر أحد، وعادت بشهدائها حتى وقفت أمام رسول الله فتلا قوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) ثم نظر إلى عمرو وعبد الله وقال (كفنوا هذين المتحابين في الدنيا في كفن واحد، واجعلوهما مع خلاد في لحد واحد، وزملوهم بجراحهم فإني أنا الشهيد عليهم. . .).