وقارئ الزهاوي يجد نظائره في دواوينه، ورباعياته، فهل استقر الشاعر على هذا الرأي لندرك نزعته المادية، ونضمه إلى فريق معين من الناس، كلا، فالشاعر يعلن ما يناقض ذلك حين يقول
فيا نفس سيري في الفضاء طليقة ... فلا شيء فيه للنفوس يعوق
لأنت شعاع طار عن مستقره ... وكل شعاع بالبقاء خليق
تحيق المنايا بالجسوم كثيفة ... وأما بأرواح فليس تحيق
فما رأى القراء مرة ثانية في هذا القول؟ ألا يقف من سابقه موقف النقيض! على أن الشاعر لا يريح نفسه بعد ذلك، بل يفعمنا بوابل من التردد المتذبذب بين هذين المثالين، فهو يعلن مرة ثالثة خفاء مذهبه بين القول الأول والقول الثاني، ويجهر بأن الدليل يعوزه في ترجيح أحدهما على الآخر، ويغرق في شكوكه واضطرابه، فهو من هواجسه في بيداء مجهل تتقاذفه الكثبان والأودية وتشرد به التعرجات والسهوب
وإنك لتلمس اضطراباته وبلبلته في مثل قوله
قالوا وراء الموت أهوال ولم ... أحفل بما قالوا ولم أتيقن
ولعل هذا الموت يتبع رحلة ... للروح خالدة وراء الأزمن
وقوله
إني ملم بأخبار الحياة وما ... عندي سوى الظن عما بعدها خبر
ما بال ليلتنا سوداء حالكة ... فهل تقدر ألا يطلع القمر
وقوله
أتحسب أن النفس بعد منيتي ... تطير بهذا الجو شبه قطاه
أم النفس من بعد المنية ريشة ... تقاذفها الأرواح في فلوات
أم الروح بنت الكهرباء مصيرها ... إلى هدران أفلتت وشتات
على أنني ماض إذا صاح بي الردى ... وآت، وماض بعد ذاك وآت
خلال دهور مالها من نهاية ... بسلسة موصولة الحلقات
والأمثلة السالفة وأكثر هواجس الزهاوي لا تخرج عن قول أبي الطيب المتنبي
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب