فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب
فإذا جاز لنا أن نعتبر المتنبي فيلسوفا، فالزهاوي إذن فيلسوف!
وقد كان الزهاوي حينا من الدهر أستاذاً للفلسفة بالآستانة، فمن المؤكد أنه درس كثيراً من الآراء الفلسفية، ومدرس الفلسفة لا يكون فيلسوفاً، وإلا فجميع أساتذتها بالمدارس والمعاهد والكليات فلاسفة مفكرون، ولن يصدق هذا أحد من الناس
وقد يقول قائل إن الزهاوي قد ألف كتباً علمية هامة، ونشر في المقتطف والمقطم أبحاثاً طبيعية، ونحن نعترف أن هذه الكتب تضع الزهاوي في صفوف العلماء لا الفلاسفة، وتنبئ عن جدارته العقلية، وملكته الفكرية، كما أنها لم تخل من مطاعن تتجه إلى دعائمها الثابتة فتحيلها إلى أنقاض، فكتاب (الكائنات) مثلاً يقوم على أن الأثير أم الكائنات تتولد منه القوى البسيطة، فترتقي إلى أن تكون مادة، والمادة ترتقي إلى أن تكون عناصر، والعناصر ترتقي وتتركب فتكون أحياء منها الإنسان والحيوان، وغير خاف أن الأثير شيء افترضه العلماء افتراضاً، فكيف يكون نواة الحياة والأحياء في هذا الوجود، وكتاب الجاذبية للزهاوي يطلعك على عجائب وهمية تتصل بالدماغ والإشعاع والنور والتصور، وقد أكون ممن لا يستطيعون الحكم على أقوال الزهاوي العلمية، فلست ممن يتعمقون في البحث الطبيعي، ولكني أقول إن الزهاوي قد اثبت بكتبه في الطبيعيات أنه عالم لا فيلسوف، ويجمل أن نشير إلى بحث هام نشره الأستاذ محمد فريد وجدي بمجلة الأزهر سنة ١٣٥٦، مؤيدا بالأدلة التي تجرد الشاعر من الفلسفة دون تحيف أو إنقاص
لقد كان الزهاوي شاعراً فحلاً يطيل القول فيجيد، وهو من كبار المجددين الذين سنوا للشعر مناهج طريفة وطرائق جديدة؛ كما كان صاحب رسالة إصلاحية في المجتمع يدين بها ويكافح عنها، وقد قاسى بسببها آلام السجن والاغتراب، ولن يضير مجد الأدبي ألا يكون فيلسوفاً، فهو من أدبه الرفيع في قمة عالية وحصن منيع