وانحرافات خلقية، بل كانت الفوضى منتشرة في القطر، فمن فتك إلى سلب ونهب إلى تخريب إلى إقطاعية شاذة وعسف لا يطاق، وكيف تستقر الأمور في بلد كالسودان إذا كان الجهل باسطا جناحيه على السكان، والوعي القومي في مهده، والشعور بالحرية مقبور. فلهذه الأسباب لم تكن العوامل آنذاك مشجعة للنهوض بالأدب، لأن الطغيان التركي كان يحطم كل شيء ويسيطر على كل مرافق البلاد، حتى اللغة العربية كانت متفككة الأوصال، يكاد الدود العثماني العين ينخر جسدها المنهوك ويحترم عمرها وهي في الشباب
وظل السودان على هذه الحالة من العسف حتى سئم الناس الظالم، فولد الثورة في النفوس التي تمخضت عن انقلاب شامل قامت على أثره حكومة المهدي - المهدية - التي ظلت تحكم البلاد زهاء ستة عشر عاما، إلى أن تم الفتح الأخير على أيدي الإنكليز والمصريين في سنة ١٨٩٨ م، إذ أبرمت الاتفاقية الثنائية لحكم السودان على النظام الحاضر
ورب قائل يقول: إذن كيف كانت الاتجاهات الفكرية في العهد (المهدوي)؟ أقول: لم تكن هناك اتجاهات أدبية وفكرية بالمعنى المفهوم الواضح نستطيع أن نتحدث عنها أو نسجل بعضها؛ إذ كل ما وصل إلى أيدينا من نتاج ذلك العهد هو أن الأدباء والشعراء كانوا يقصرون إنتاجهم الفكري على المدح والتغني بالأمجاد، وكل ما نظموه لا يتعدى حدود الدين والشريعة، وقد كان أكثر شعرهم نظماً شبيهاً بألفية ابن مالك ومدائح البرعي في الرسول الأعظم
وهكذا استمرت الحال حتى دارت عجلة الزمن دورتها البطيئة إلى أن وقفت أمام عام ١٩٢٤ م، حيث تمخضت البلاد عن ثورة أخمدت في مهدها، ولا أريد أن أتحدث هنا عن الثورة، ولكني أحب أن أعرج على نفسية شباب ذلك العهد الذي يعتبر نقطة تحول بالنسبة للسودان من جميع النواحي، وإيضاحاً للحقيقة نقول: إن ذلك العهد بشبابه المتوثب الثائر، كانت فترة انتقال من عهد الجهل والخمود إلى عهد اليقظة والعلم والمعرفة
ففي تلك الفترة كان اتصال السودانيين بمصر الشقيقة وثيقاً، حيث أخذت الكتب والمؤلفات المصرية تغزو الأسواق فتتلقفها أيدي القراء، وتقبل عليها النفوس في لهفة وشو لتروي عطشها إلى العلوم والمعارف، وفي الحق أننا نستطيع أن نقسم ذلك العهد إلى أقسام ثلاثة هي: