البشري يستوعب ويلفظ يومياً هذه الشائعات بصورة استمرارية، وإذا كان حب الاستطلاع مسيطراً علينا هذه السيطرة التامة فيما يخص الشائعات العادية، فكم بالأحرى تكون لأحاديث حوته وشلر أهميتها الكبرى التي تغارينا النزاهة نفسها على الإنصات إليهما فيما لو كنا عائشين في عصرهما، ولكن من سوء الطالع أن تمر هذه الأحاديث لتوها في الساعة التي شهدتها. ولنعد الآن إلى الرسائل والردود المتبادلة بينمها، فإنها على ما هي عليه من حيوية وصراحة ومحبة، لم تتركا غير الرموز والخلاصات المقتضبة. . فالحركة الدراماتيكية التي كانت تمثل على مسرح الحياة لا تخلف شيئاً غير النتائج التاريخية الباهتة وهي كل ما يتبقى لدينا. . ومن الحق القول أن كل رسالة خصوصية تبين نوعا مت شخصية الكاتب، ولكن التصوير عاجز كل العجز عن تشخيص الطبيعة الروحية. فالهرم يمكن قياسه ورسمه من قبل مهندس بارع بحيث يصبح واضحاً للعيان، وكذلك يمكن رسم جبل (مونت بلانك) بألوانه وأشكاله وفي متاحفنا صور طبق الأصل لكل ذلك. أما تشخيص الرجال العظام وتصوير هذا الطراز من الرجال، وهكذا. . فالصور التي في حوزتنا تظهر من خلال سجف التاريخ باهتة ضعيفة غير واضحة المعالم، وهي بعيدة كل البعد عن سحرها الذي امتازت به، وقوتنا كلها عاجزة عن تجسيدهم كما هم رجالاً أحياء ينبضون بالقوة والحيوية الدافقة وكل الذي نتمكن أن نفعله الآن لا يتعدى تصوير أشخاص أشبه شيء بأشباح أوسيان في ظلال الغبش، فسقراطنا ولو ثرنا - بعد كل هذا الذي قيل عنهما - ليسا في الحقيقة سوى شخصين غير مرئيين، فليس حكيم أثبنا ولا راخب ايسلبين شخصين بالمعنى المعروف وإنما هما لقب ليس إلا. ومع ذلك فهؤلاء الرجال، وليس الألب أو (الكوليسيوم) هم من عجائب الدنيا وهؤلاء أنفسهم هم الذين نسعى جاهدين لطبع أفكارهم في ذاكرتنا. إن الرجال العظام هم أعمدة النار التي تقود حجيج الإنسانية، والتي تنتصب كبشائر سماوية وشواهد على ما حدث وأدلة ناطقة على ما سيحدث من شؤون تقرر مصير العالم بأجمعه، وهم في الوقت نفسه الإمكانيات المتجمدة الظاهرية للطبيعة الإنسانية المغلقة بالألغاز والأحاجي، وهم بهذا الاعتبار يمثلون العظمة غير المنظورة وغير المدركة عقلا حتى من قبل أنفسهم كبشر. على الرغم من أنهم يحبونها أشد الحب ويحترمونها أكبر الاحترام، ولكنهم يضطرون، تحت الظروف القاهرة، على أن يظلوا غير مدركين لهذه