عكف على تنفيذ هذه (الصور) وإزجائها إلى المطبعة فهو غاد ورائح بين آلة الطباعة وباعة الروق وتصحيح التجارب وهكذا، وما صرف صيفه الأطول على ذلك النمو إلا ليصرف عن نفسه أحزانها وأشجانها
ولقد كررنا كلمة (الصور) التي احتواها (مواكب الناس) عن عمد، ذلك لأن هذا المؤلف الأخير مختلف تمام الاختلاف عن مؤلفه السابق (دنيا الناس) الذي قدمناه لقراء (الرسالة) قبل عامين فذلك كان أقاصيص فيها (حبكة) القصة ولها (عقدتها) تنساح بين أرجائها (المؤامرات) ويرين عليها عنصر (المفاجئات) بيد أن الكتاب الذي بين أيدينا قد صدق فيه مؤلفه إذا أطلق عليه عنوانه، فهو (مواكب) للناس تتلاحق، وتتسابق، ثم تسير على وتيرة واحدة حتى تفترق بها الطرق وتفرق عن سبيله، وهو في هذا يقول: لما فرغت من هذه (الصور) التي تحتويها هذه المجموعة، استرضتها جملة فاتضح لي أن أصحابها شخصيات حقيقة، عاشت وعرضت لي في الحياة فعرفتها، ولهذا لم يكن لي كبير فضل في ابتكارها، وإنما الفضل لمن خلقها على هذا النحو، تارة على بساطة وبراءة وأخرى على شيء من الغرابة والتعقيد، فكان عملي - والحالة هذه - مقصوراً على نقلها من دنيا الواقع إلى دنيا الفن دون أن أبدي إعجاباً هنا أو زراية هناك
انتهى كلام المؤلف في كتابه الجديد في حين أنه يحاول الاحتراس في كتابه السابق بقوله (كل ما ورد في هذا الكتاب من أسماء الأماكن والأشخاص خيالي ولا يصف شخصية معينة بالذات؛ فنرجو المعذرة إذا وقع تشابه غير مقصود بين الأسماء أو الصفات أو الحوادث)
فالكاتب الفاضل إذن قد حدد النهج في كتابيه وفصل بينهما بحجاز، ومن هنا نتقبل (مواكب الناس) على أنه طائفة من الصور الأخلاقية الاجتماعية أعمل المؤلف ذوقه وفنه في اقتناصها وتجليتها على القارئين، فبدت كواسطة العقد تختال للناظرين
وإن قارئاً من القراء ما يستطيع إذ يستطلع (مواكب الناس) أن ستريب في أن صورة أو أكثر من صورها شكت بصره أو ضربت أذنه في زمن من الزمان أو مكان من المكان، ولكن ليس لكل إنسان تلك الطبيعة النقية المتساوقة التي جعلت الفن القصصي طيعاً ليناً بين أنامل السيد نقولا يوسف، فهو يصور الواقع بريشة الفنان الذي يرى ويسمع ويتذوق ثم ينقل إلى القرطاس صوراً لا يكاد يتلوها القارئ حتى يرى فيها نفسه لا تريم ولا تتحلحل!