ويكرس كل جهوده في مستقبل أيامه للحكمة والتأمل. والفترة التي تقع بين هاتين المرحلتين تمتاز بميزات مختلفة. فالأولى هي دنيوية ذات انهماك في صروف العالم. . والثانية روحية ذات اتجاه هادئ عميق الغور قصي المعاني، وقد امتاز الاتجاه الثاني بنموه الروحي وازدهاره الفكري وبالثمرات السلمية التي قدمها إلى العالم، وسنوجه هنا نظرنا بصورة رئيسية إلى المرحلة الأولى.
يمكن اعتبار شلر سعيدا بالنسبة للظروف التي أحاطت بأعوامه الأولى وخصوصاً فيما يتصل بوالديه. لم يكن والداه غنيين أو مستقلين في شؤونهما المعاشية، إلا أنهما مع ذلك لم يكونا فقيرين فقرا مدقعا، فالمحبة الحارة والأخلاق الصريحة التي تبلغ مبلغ التدين، يضاف إلى ذلك قابلية ذهنية منفتحة خاصة للمعرفة، مع ثقافة عقلية جيدة تجعل في الإمكان إصلاح أي خلل قد يقع بينهما.
وقد كان في سلوكه ما يبشر بمستقبل عظيم، طبيعة هادئة قابلة لكل الإرشادات، يزينها عقل وقلب وومضات من الحيوية والنشاط تظهر بين الحين والآخر، وليس أدل على ذلك من حكاية الصاعقة التي نأمل أن تكون واقعية:(حدث أن عاصفة صاعقية اجتاحت المنطقة التي يسكن فيها وكانت من الشدة والقوة بحيث أثارت الخوف والرعب في جميع الناس، وكان الكل داخل بيوتهم، وقد افتقد أبو فرتز أبنه، وقد كان في دور الطفولة، فخرج الأب لا يلوي على شيء باحثا مفتشا عن ابنه، وفجأة عثر عليه قابعا بكل هدوء وسط هذه العاصفة الهوجاء في رأس شجرة وهو ينظر بدهشة واستغراب لاحتراب الطبيعة، فما كان من والده إلا أن عنفه أشد التعنيف. ولكن الولد بدلا من إصغائه إلى هذا التعنيف أجاب (إن البرق جميل جدا ولكنه يريد أن يرى من أين أقبل هذا البرق). . .)
درس شلر الكتب الكلاسيكية باعتناء زائد ولكن بدون رغبة، إلا أنه درس الكتاب المقدس بلذة بالغة في البيت، وقد شغف حبا بالأنبياء العبرانيين وبجلال كتاباتهم الرمزية، وقد كان لطبيعته الورعة - مضافا إليها تقوى والديه - تأثير في دفعه إلى الكهنوت، ولكن الكنيسة التي أراد التعلق بها كانت الكنيسة الشاملة الحقيقية وليست الكنيسة الرومية المزيفة. وفي سن التاسعة شاهد بدهشة مفرحة ولأول مرة (عجائب مسرح لودفيكزبرغ) وقد كان لهذه المشاهدة تأثير عميق في ذاكرته. وبذا يكون قد ألقى أول نظرة على العالم الذي قدر له -