الميسورة، يتراءى لأول وهلة. . وذلك أن الاستبداد لا يتخذ لنفسه موطناً من الإنسان إلا الروح والقلب فحسب. . فهناك يبذر بذوره ويتأصل، وهنالك يؤسس عرشه ويضع على رأسه تاجه المروع.
وقد يخيل إليكم في بعض الأوقات أن الاستبداد قد تهدم صرحه، وتقوضت دعائم بنيانه، وقضى على آثاره ومعالمه ويساعدكم على اصطناع هذا الظن زوال ظواهره وعلاماته، يرى الحقيقة، لو تأملتم مليا، أنه ما يزال حيا في كل جانب، مضطرب هواه في كل فرد.
وعلى سبيل المثال أقول: إنكم تجدون أناسا يطالبون بالحرية بأعلى أصواتهم ويتحمسون لها غاية الحماسة، ولكنهم في الوقت نفسه لا يحترمون حرية الجار مثلا. . فعند أول اصطدامهم بهذه الحرية تجدهم يرغون ويزبدون، ويودون لو أتيح لهم سحق الشخص الذي أمامهم سحقا تاما، والقضاء عليه بأي وسيلة.
وذلك لأن عرش الطغيان لهم يهدم، وروح الاستبداد لم تقتل ولم تنبذ بعد من الأرواح والقلوب.
وهذا هو السبب أيضاً في أن الحرية في مثل هذه الأحوال قد تنقلب إلى فوضى ماحقة، لا تبقي ولا تذر، ذلك أن الاستبداد المتجمع سابقا في الفرد الواحد، يأخذ في هذه المرة طريقه إلى الظهور عند كل فرد على حدة، بعلائمه البارزة المستديمة، فيتعاظم أثره في النفوس على التدريج، ويشرع البعض في استمراء التحكم والعبث بحقوق البعض الآخر باسم الحرية ذاتها. . غبر أنه قبل أن يمكن استمرار هذا الحال طويلا تظهر الحاجة ثانية إلى كتمان أنفاس الكل، وإلى قبوع كل واحد في جلد باسم الحرية ذاتها من جديد. .
وهكذا تضطر البيئات التي لم تستأصل بعد جذور الاستبداد المعنوية من دواخلها، ولم تقض على لآثارها في نفوس ظهرانيها إلى التقلب على الدوام بين عهدين من الفوضى وفقدان الحرية، الأمر الذي يعد بلادة مجهولة العواقب لهذا المجتمع بطبيعة الحال.
لهذا فإن دستور بلاد الأحرار قد وضع لإرشاد مجتمع كهذا إلى الطرق المثلى التي يصون بها نفسه عن الوقوع في مهاوي مردية كهذه، حيث فيها القضاء الأخير على البقية الباقية من حياته وكيانه أمر محتوم أكيد.
أما ما يهدف إليه هذا الدستور فهو القضاء على روح الاستبداد في النفوس، وهدم عرشه