إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا. ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم. أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم. أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق. . إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء، انتفضت حية، وعاشت بين الأحياء!
فإلى الذين يجلسون إلى مكاتبهم، يكدون قرائحهم، لينتقوا اللفظ الأنيق، وينقوا العبارة الرنانة، ويلفقوا الأخيلة البراقة. . إلى هؤلاء أتوجه بالنصيحة: وفروا عليكم كل هذا العناء؛ فإن ومضة روح، وإشراق قلب، بالنار المقدسة، نار الإيمان بالفكرة. . هو وحده سبب الحياة. حياة الكلمات وحياة العبارات!
ثم ماذا؟
ثم لا يقعدن القادر على العمل وهو يطمح أن يؤدي واجبه بالكلام. . ذلك خاطر أحب أن أحذر منه بعد ما أسلفت من الإيمان بقوة الكلمة، وإلى آثارها الملموسة في الحياة.
إنه في كثير من الأحيان يكون القول الفصل للشاعر الذي يقول:
السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
وفي كثير من الأحيان يصبح من العبث أن نظل نتكلم ونتكلم، ثم لا نفعل شيئا. إن الكلمات في هذه الحالة تكون استهلاكا للطاقة الكامنة وليست توليدا للطاقة.
ثم إن عددا نادرا من الكتاب الموهوبين هم الذين يملكون أن يحولوا الكلمات إلى طاقة. أما القاعدة فهي أن يعمل الناس، وأن يحققوا بالعمل ما يريدونه من مقدرات.
والكلمة ذاتها - منهما تكن مخلصة وخالقة - فإنها لا تستطيع أن تفعل شيئا، قبل أن تستحيل حركة، وأن تتقمص إنسانا. الناس هم الكلمات الحية التي تؤدي معانيها أبلغ أداء.
إن الفارق الأساسي بين العقائد والفلسفات أن العقيدة كلمة حية في كيان إنسان، ويعمل على تحقيقها إنسان. أما الفلسفة فهي كلمة ميتة، مجردة من اللحم والدم، تعيش في ذهن، وتبقى باردة ساكنة هناك.
ومن هنا كانت العقائد هي الحادي الذي سارت البشرية على حدائه، في درب الحياة المنعرج الطويل. تصعد الروابي وتهبط السفوح، وتردد حداءه في المتاهة المهلكة، فتنجو وتحيا، وترتقي وتثق في رسالتها، لأنها رسالة تنبع من أعماق الضمير، ويشتعل بها