والذي يثبت لكم أن كلامهم تقليد بلا فهم، هو أنهم سمعوا الإفرنج يقولون بفصل الدين عن السياسة، فقالوا بذلك وكرروه حتى صار من الحديث المعاد والكلام المملول، ولم يفهموا إلى الآن ماذا يريد الإفرنج بلفظ الدين.
الدين عند الإفرنج هو الذي يحدد صلة الإنسان بالله. لذلك قالوا: الدين لله والوطن للجميع، وقصروا الدين على الكنيسة.
ونحن لا ننازع في شيء من هذا، ولا نقول بأن للدين (بهذا المعنى) صلة بالسياسة، ولا نقول بأن له دخلا في الدولة، ولكن ماذا نصنع إذا كان الإسلام يختلف بطبيعته عن النصرانية وعن الأديان الأخرى، بأن كان فيه ما يحدد صلة الإنسان بالله وهو الدين (العبادات)، وكان فيه ما يحدد صلته بأهله وأسرته، (الأحوال الشخصية)، وكان فيه ما يحدد صلات الناس بعضهم بعض (المعاملات) وكان فيه حقوق عامة جزائية (العقوبات) ودستورية (أحكام البيعة وما يتصل بها من مباحث الفقه)، وكان فيه حقوق دولية عامة تحدد صلات الدولة بعضها ببعض، وخاصة تحدد صلات رعايا دولة بدولة أخرى، كل هذا في الإسلام وهو موجود في كل كتب الفقه، فهل يمكن أن نفصل بعضه عن الإسلام؟ هل يريد هؤلاء المجددون المقلدون أن نحذف سورة براءة مثلا من القرآن لأنها من الحقوق الدولية وليست من الدين، كما يفهم الإفرنج من كلمة الدين؟
نحن لا نريد أن ندخل الدين، الذي هو العبادات، أي - الصلاة والصوم - في الدولة، ولكن لا نستطيع أن نقيم دولة أو نضع قانونا، مخالفين أحكام الإسلام في إقامة الدولة، وفي موضوع هذا القانون.
هذا كلام واضح صريح مفهوم، صرت أستحي من إعادته ونشره، لكثرة ما قلناه ونشرناه. ولكن هؤلاء الناس لا يفهمونه أو هم لا يريدون أن يفهموه، وهو باطل في نظرهم وسيبقى باطلا إلى أن يقرؤوه باللغة الإنكليزية في مجلة تطبع في نيويورك أو سان فرنسسكو، أو في أي قرية من قرى أمريكا، هنالك يصير حقا ويهتفون له، ويعيدونه ويفخرون بأنهم كانوا منتسبين (بالمصادفة) إلى هذا الدين العظيم.
وإلا فهل يمكن أن تكون دولة بلا دين؟ لا أقول لكم اقرؤوا كتبنا ومباحث علمائنا. بل