يروى النفوس الصادية، ويبد الجوانح الملتهبة، فهتفت باسمه الأصوات، ولهجت به أرواح الشبيبة، وأخذ القراء يترقبون مقالاته الإنسانية كما يترقب المدلج الحائر قبسا من ضياء.
أما القصيدة التي جرت عليه السجن والتشريد فقد ذاعت بين القراء ذيوعا عجيبا، ورغم مصادرة الجريدة فقد تداولها المتأدبون بالنسخ والتدوين، وبقي من لم يقف عليها متعطشا إلى قراءتها، متصيدا لها في مظانها بين مسودات الأدباء، وفي مطارح السمر، ومجالس الأندية، وقد احتال المرحوم الأستاذ سليم سركيس على إذاعتها بطريقة لبقة، فقد أوعز لبعض الأدباء أن يشطرها ويخمسها بما يغير اتجاهها، ثم طبع التشطير والتخميس في صحيفته، وبذلك أتاح لها أن ترى النور مرة ثانية دون أن تنالها الرقابة السياسية بمصادرة أو تحقيق، فقرأها من لم يكن وقف عليها قبل ذلك، وظلت عالقة بالأذهان إلى يومنا هذا، وأذكر أتي سمعتها قبل أعوام من شيخنا الراوية الأستاذ أحمد شفيع السيد الأستاذ بكلية اللغة العربية ثم قرأتها عقب الحركة الوطنية الأخيرة بصحيفة الأدب في جريدة الأخبار. . على أن المنفلوطي لم يترك الشعر مرة واحدة، بعد هذه القصيدة، فقد كان يدفعه إليه حنين جياش يغلبه على أمره، فينظم بعض المقطوعات الرقيقة والقصائد البارعة، كأشعاره في القلم وأسماء بنت أبي بكر وبول وفرجيني، ولكن طاقته الشعرية قد تحولت بلا شك إلى طاقته النثرية، فبدت كتابته سلسلة رقيقة، تتدفق فيها العذوبة وترن بها موسيقى الشعر وأنغامه، فتتفتح لها الأحاسيس، وتتوهج بها العاطفة، وتنفث في النفوس ما ينفثه الشعر من روعة فاتنة وتأثير وأعلامه، وكان يستطيع أن يصدر في تأريخه والتعريف به كتبا متنوعة كما فعل نظراؤه من الأدباء، ولكنه اقتصر على النثر الفني المبدع، ليفسح المجال لإنسانيته الحية، وشاعريته المتوثبة، فجاءت آثاره ترجمانا لما حوله من كآبة وشقاء، وأصبح المصور الأول لعبرات البائسين وهموم الأشقياء، وهل يبتعد الشعر عن هذا النطاق!! سواء كان مطلق الأعنة، أو مقيدا بالأوزان؟ سلام علي مصطفى في رحاب الخالدين من البلغاء!!