قدوم ولكن لا أقول سعيد ... وعيش وإن طال المدى سيبيد
علام التهاني، هل هناك مآثر ... فنفرح، أو سعى لديك حميد
تمر بنا لا طرف نحوك ناظر ... ولا قلب من تلك القلوب ودود
تذكرنا رؤياك أيام أنزلت ... علينا خطوب من جدودك سود
رمتنا بكم مقدونيا فأصابنا ... مصوب سهم بالبلاء سديد
فلما توليتم طغيتم وهكذا ... إذا أصبح التركي وهو عميد
فكم سفكت منا دماء بريئة ... وكم ضمنت تلك الدماء لحود
وكم ضم بطن البحر أشلاء جمة ... تمزق أحشاء لها وكبود
وكم صار شمل للبلاد مشتتا ... وخرب قصر في البلاد مشيد
وسيق عظيم القوم منا مكبلا ... له تحت أثقال القيود وئيد
فما قام منكم بالعدالة طارف ... ولا سار منكم بالسداد تليد
كأني بقصر الملك أصبح بائدا ... من الظلم، والظلم المبين يبيد
ويندب في أطلاله اليوم ناعبا ... له عند ترداد الرثاء نشيد
أعباس ترجو أن تكون خليفة ... كما ود آباء ورام جدود
فيا ليت دنيانا تزول وليتنا ... نكون ببطن الأرض حين تسود
وهذه القصيدة وثيقة تاريخية تبين ما ارتكبه الطغاة مما أغفله تاريخنا المشوه الممسوخ، فقد سفكوا الدماء البريئة إشباعا لشهواتهم، وحفروا القبور للضحايا من الشهداء، وملئوا البحار بجثث القتلى تأسيا بطاغوتهم الأكبر عبد الحميد، وفتحوا السجون على مصاريعها لغير المذنبين من ذوي الغيرة والإباء، وتلك فضائح يندي لها الجبين!! وقد ارتاع أولو الأمر أكبر ارتياع لنشر هذا الهجاء الصريح، فصودر ما بقي لدى الباعة من أعداد الجريدة، وقدم إلى النيابة رئيس التحرير، والشاعر الغيور بتهمة العيب في الذات المصونة!! ثم حكم عليهما بالحبس مدة طويلة ذاق المنفلوطي فيها أهوالا لم يتعودها من قبل، وعومل معاملة غادرة لا تليق بوطني يصدر رأيه عن عقيدة وإيمان، فتكونت لديه - في محبسه - من الشعر عقدة نفسية، جعلته يعاف قرضه وتجويده، فبعد أن خرج من السجن توجهت همته إلى الكتابة النثرية، فحلق في أجوائها الفسيحة، وسال نثره المترقرق مسيل الفرات العذب،