ويشتم، ويتفاءل ويتشاءم، ويلحد ويستغفر، كل هذا في آن واحد ومجلس واحد، مما جعل أصدقائه يتقبلونه ويألفونه دون أن يجدوا فيه موضعا للمؤاخذة والعتاب.
وقد نشأ إمام العبد في جيل لا يشجع الأدب والأدباء، فالأمية فاشية، والصحافة تسير بخطى متعثرة، والقراء هم الأدباء أنفسهم، إلا ما ندر من الأغنياء والموظفين، لذلك سدت أمامه سبل العيش ولم يجد في الشعر والأدب متجراً رابحاً يدر عليه الرزق والمال!! ولكن عبد الحميد نشأ في جيل يختلف عن جيل صاحبه فقد كثر عشاق والأدب والصحافة، وأصبح الأدباء يرتزقون بثمرات أفكارهم، وأسلات أقلامهم. وهنا نجد أنفسنا نواجه سؤالاً هاماً تتحتم الإجابة عليه، فهل كان عبد الحميد الديب يائساً حقا؟ أم أنه قد احترف البؤس احترافاً، وكان في متناوله أن يصبح سعيداً محظوظاً، كأصدقائه من الكتاب والشعراء؟ لقد سمعنا كثيراً ممن يبكون عبد الحميد، يتحسرون على شبابه الضائع في أمة لا تقدر الأدب، ولا تعترف بالمواهب، فهم ينحون يا للائمة على مجتمع يهمل النابغين، ويحتقر المواهب والكفايات!!
سمعنا ذلك، وقرأناه مرات ومرات، ولكنا قرأنا في مجلة الرسالة (٧٩٦) رأياً آخر للكاتب الفاضل الأستاذ عباس خضر، يتهم به الشاعر باصطناع البؤس واحترافه، ويدفع عن مصر ما ينسب إليها - ظلماً - من احتقار المواهب والنبوغ، وسننقل هنا خلاصة هذا الرأي الفريد، ثم نعقب عليه بما نراه:
قال الأديب البارع الأستاذ عباس (إنما يأتي البؤس والحرمان من التعفف مع عدم القدرة على الارتزاق، وقد كان الديب على عكس ما يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، إذ كان من العفاة السائلين، وكثيرا ما هيئت له أسباب العمل، فقد وظف عدة مرات في التدريس بمجالس المديريات، وطالما دعا إلى التحرر بالصحف والمجلات، فكان يبدأ العمل، وينقطع عنه بعد قليل، وفي بعض الأحيان كان يحتال لأخذ المرتب مقدما ثم يذهب ولا يعود).
ويقول الكاتب الفاضل بعد كلام طويل يدور حول ذلك (هذه هي الحقيقة في حياة عبد الحميد كما يعرفها خلطاؤه، لا كما يحلو لبعض الناس أن يصورها، فلم يكن البؤس يأتي إليه قدراً لا يد له فيه، وإنما كان يصنع البؤس صنعاً، كان يحصل على المال فيبذره تبذيراً في أدنأ الوجوه، وأقذر البيئات، ثم يجوع ويعرى، بصنيعه، وكانت تعوزه الكرامة والإباء