للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والعفة، ليكون بائساً حقيقياً، وكان لا يتحرج من أية وسيلة للاستفادة المادية، ولا يتورع عن أي شتم، ولم ينجو من هجوه أحد من عرفهم سواء أعطاه أم منعه، فعلى الناعين على هذا الوطن جحوده وإهماله النابغين من أبنائه أن يلتمسوا المثال في غير عبد الحميد الديب، ويعفوا التاريخ من التزوير والتزييف).

هذا هو رأي الأستاذ عباس خضر! ونحن نخرج منه بنتيجتين، أولها أن المجتمع المصري قد قدر الشاعر، وفتح له أبواب الرزق فسدها بيديه، وثانيهما أن الديب قد اصطنع البؤس اصطناعاً وكان في مكنته أن ينعم بالمال والسعادة، لو سلك الطريق القويم!!

ونحن نوافق على النتيجة الأولى، فنبرئ المجتمع المصري من احتقار المواهب ممثلة في الديب، فقد مهد للشاعر سبيل الرزق، وأعد له الوظيفة اللائقة، ومنحه الزملاء والأدباء ما يكفيه من المال لو اعتصم بالحكمة والسداد. هذا حق لا مرية فيه، وعلى الناعين على الوطن إهماله وجحوده أن يلتمسوا المثال في غير الديب كما يقول الأستاذ عباس - كأن يلتمسوه مثلا في إمام العبد، الذي نشأ في جيل غير جيل عبد الحميد، فكابد من الجوع والحرمان ما أورثه التعاسة والشقاء!!

أملا النتيجة الثانية، فسنخالف فيها الكاتب مخالفة صريحة، فقد كان الديب ملتاث العقل، لا يعي ما يصنع، بل تضيق به نفسه فيترك الوظيفة، ويهيم على وجهه دون أن يستمع إلى منطق أو تفكير سليم، وهذا الذي لا يملك زمام نفسه. بل يهوي به الشرود والذهول إلى هوة مؤلمة، فيمزق ثوبه وحذاءه، ويتراكم الغبار على رأسه الأشعث، ووجهه الشاحب، وأسنانه الصفراء، ثم يرسل الضحكات بلا مناسبة، ويرفع الصوت عاليا دون مبرر، ويبكي ويضحك في آن واحد، هذا الذي يفعل ذلك كله، لا يكون ممتعاً بكامل قواه العقلية حتى يصنع البؤس ويحترفه، وكل ما يقال عنه أنه تائه شريد، لا يعي مصلحته، ولا يقدر نفعه، فهو - إذن - جدير بالرحمة والإشفاق.

لو كان الديب يصنع البؤس عامدا، ويتخيره عن رؤيا وتفكير، ما دفع به الحظ التعس إلى مستشفى الأمراض العقلية، فيقضي شهوراً مؤلمة بين عالمه الطبيعي المزدحم بالمرورين والمجاذيب، ولكنه جن جنوناً حقيقياً، فانحدر إلى هذا المهوى السحيق.

لو كان الديب يصنع البؤس عامداً ما قضى شهوراً مريرة في السجن، تكتنفه الظلمات،

<<  <  ج:
ص:  >  >>