وتتغشاه الغياهب، ويجاور السفلة من المجرمين والأوغاد، ويقول عنهم في حنق وآسف:
بنو آدم من حولنا أم عقارب ... لها في الحشا قبل الجسوم دبيب
لقد كنت فيهم يوسف السجن صالحا ... أفسر أحلاما لهم وأصيب
لو كان الديب يصنع البؤس عامداً، ما قطع الليالي الباردة في زمهرير الشتاء، هائما في الطرقات، تتقاذفه الشوارع والأزقة، وينهمر المطر فوق رأسه، وترتعش أضالعه، وتصطك أسنانه كالمقرور، ولا يدري أين يذهبويلتجئ، حتى يسمع صوت المؤذن في الفجر، فيعلم أن المساجد قد فتحت أبوابها للتائهين، فيهرع إليها محتمياً بجدرانها من السيول الدافقة، ويجد نفسه مدفوعا إلى الصلاة بدون رغبة سابقة، فيقول:
إذا أذنوا للفجر قمت مسارعا ... إلى مسجد فيه أصلي وأركع
أصلي بوجدان المرائي وقلبه ... وبئست صلاة يحتويها التصنع
لم كان الديب يصنع البؤس عامداً، ما ترك دار العلوم دون أن يتم سنواتها الدراسية، وقد كان قريبا من مؤهلها الذي يضمن له الهدوء والاستقرار، دون أن يتساقط على الفتات.
لو كان يصنع البؤس عامدا، ما كابد هذه الشرور والأهوال، ولكنه ذو عقل ملتاث يدانيه من المخاطر، ويباعد عن الأمن والاطمئنان، وأمثاله كثيرون ممن تضج بمآسيهم الحياة، ولا يجدون الراحة في غير المقابر الحالكة، بعد أن يطوفوا طويلاً بالسجون والمستشفيات؟! أليس هو القائل:
جوارك يا ربي لمثلي راحة ... فخذني إلى النيران لا جنة الخلد
فماذا بعد الحنين إلى الموت والفزع من الحياة؟!
ولم يكن جنون الديب دائماً، بل كان متقطعا يواتيه الفينة بعد الفينة، وبذلك استطاع أن ينظم الشعر الرائع، وأن يخلد ذكره بين الأدباء، كما خلد المجنون الأكبر قيس حديثه بين العشاق.
ونحن لا نستطيع أن نحكم على شعره حكما صادقاً صريحاً، لأن عبقريته الفائقة تجلت في أهاجيه المريرة اللاذعة، وهي لم تنشر على الناس في كتاب، ولا يسمح من يحفظها من أصدقائه بتدوينها في صحيفة أو كتاب، لبشاعة ما تحمله من التجني، والإسفاف. فكيف نحكم عليها وهي ما تزال في طي الكتمان! على أني قرأت كثيراً مما نظمه في بؤسه