وحرمانه، فوجدته يتمتع بسلاسة اللفظ ووضوح المعنى، وصدق العاطفة، وكان يصور شجونه كما ترتسم في نفسه، دون أن تتعمق به الفكرة أو يطير بجناحه الخيال، وإنما يقتصر على الوصف الصادق، لشعوره المتألم، وإحساسه الملتاع، كأن يقول:
أفي غرفتي يا رب أم أنا في لحدي ... ألا شد ما ألقى من الزمن الوغد
فأهدأ أنفاسي تكاد تهدها ... وأيسر لمسي في بنايتها يردي
تراني بها كل الأثاث، فمعطفي ... فراش لنومي، أو وقاء من البرد
أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها ... فأرجله أمضى من الصارم الهندي
تحملت فيها صبر أيوب في الضنى ... وذقت هزال الجوع أكثر من غاندي
أو يقول:
أرى الحوادث آسادا مقذفة ... على دون الورى تعدو وتقتتل
فكم تصوح عودي بعد نضرته ... وكم خبا في دياجي عمري الأمل
كأن حظي رحيق الدهر يشربها ... بكراً معتقة، فالدهر بي ثمل
إذا تطلبت عيشي مت من كمد ... وإن تطلبت حيني يبعد الأجل
جوعان، يا محنة أربت على جلدي ... كأن ليلي بيوم البعث متصل
أو يقول:
أذله الدهر لا مال ولا سكن ... حتى تزيد على أنفاسه المحن
إذا سعى فجميع الأرض قبلته ... وإن أقام فلا أهل ولا وطن
مهاجر بين أقطار الأسى أبداً ... كأنه بيد الأرزاء مرتهن
كأنه حكمة المجنون يرسلها ... بغير وعي، فلا تصغي أذن
هذه بعض النفثات الحارة التي نفس بها الشاعر عن صدره، وهي قريبة من نفثات إمام العبد التي نشرنا بعضها بالرسالة. والشاعران كما يلاحظ القارئ متماثلان في الغرض والمعنى والصناعة، ولكن بيئة إمام الشعرية لم تكن تسمح بالابتكار والتنوع، كما سمحت بيئة الديب، فقد وجد من شعراء عصره ونقاده، عمالقة موهين ذهبوا بالشعر مذاهب مختلفة، وفتحوا لها آفاق شاسعة رحيبة. وطبيعي أن يتأثر بما يقرأ ويسمع، لذلك نجده يجنح إلى الشعر التحليلي في قصائده التي نشرها بالمقتطف، كما يميل إلى الشعر