لم يكن الميسر عند العرب لهوا يلهون به، ولعبة يلعبونها، إنما كان نظاماً اجتماعياً دعتهم إليه ظروفهم الاجتماعية، وساقتهم إليه طباعهم البدوية، فالباعث الحقيقي عليه كان (الكرم) وكان التباهي بالكرم، وهذا الأخير هو الذي أظهر الدين كراهته فيما بعد، كرهه الدين وكره معه أيضاً ما كان يصحب هذا الصنيع من نزاع وجدال وخصومة في سبيل الظفر بأوفى نصيب، هذا إلى ما يقارنه من المخاطر بالمال والتعرض للفقر.
ومن بواعثه أيضاً إعانة الفقراء فيما بينهم، إذ كان الفائز منهم بنصيب لا يتناول منه شيئاً، بل يلقيه إلى المحتاجين والمعوزين من ذويه، ليسد رمقهم.
قال أبو حيان:(وأيهم خرج له نصيب واسى به الفقراء، ولا يأكل منه شيئاً، ويفتخرون بذلك). ثم قال:(وربما قامروا لأنفسهم) أي أن ذلك أمر نادر.
والحاجة والعوز - وهما المتطلبان للكرم والجود - إنما يشتدان في وقت الشتاء عند العرب، وذلك عندما جدب البلاد وتقشعر الأرض، ويتعذر القوت على طالبه، وحينما يكلب الومان وتضن البلاد بخيراتها، والنوق بألبانها.
وليس في طوقك أن تتصور حال البؤس وشظف العيش الذي يتعرض له الأعراب في باديتهم ي ذلك الزمان، ومقدار الحاجة الملحة التي كانت تنزل على الأرامل والأيتام في تلك المجدبة والمسغبة.
فالوقت الطبيعي للميسر عند العرب هو فصل الشتاء، وهم يختارون الليل في ذلك الفصل، لأن الليل وقت طروق الضيف، وحين اشتداد البرد، فيقودون النار ليهتدي بها الضيف، وليستطيعوا أن يزاولوا هذا العمل في يسر.
وكان الرجل من العرب يخشى الصيف، أن يحضر الصيف ولم يكن قد صنع له في شتائه مفخرة تذكر له حين تذكر المفاخر، فهو يخشى أن يعير في الصيف بنكوصه عن المشاركة في هذا لجهد الاجتماعي، وإمساك يده عن مساعدة القبيلة
إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم ... فواحش ينعى ذكرها بالمصايف
وذلك أنهم يخصبون في الصيف فيتذاكرون ما كان من الناس في الشتاء، فيعير كل امرئ بسوء فعله.
وقد سجل الشعر العربي أن الميسر يكون في الشتاء، فقال الأعشى: