ونقول في الجواب عن هذا الاعتراض أن النفس الإنسانية أمرها شديد العجب، فهي تبدي خلاف ما تبطن، وتصدر عنها أفعال تباين ما يشعر به صاحبها. فهل نصدق الأعمال ونكذب المشاعر، أو نصدق المشاعر ونكذب الأعمال؟
واعلم أن اتجاه المحدثين في علم النفس هو الأخذ (بالسلوك) والأعمال الظاهرة، وليس لهم شأن بما يجري داخل النفس من ظواهر شعورية. وهناك مدرسة كبيرة على رأسها الأمريكان، ويتبعها بعض العلماء في أوربا، تبحث في علم النفس بغير شعور. ونحن إلى هذا الاتجاه اميل، فنقدم العمل ولا نقبل الشعور، ونصدق السلوك ونفسر به النزعات الباطنة.
وعلى هذا الأساس يسهل علينا تفسير هذه الظاهرة التي يذكرها صاحبنا، فهو يمسك بالكتاب ولا يكاد يقرأ منه بضع صفحات حتى تأخذه سنة من النوم. هذا هو الواقع المشاهد الذي لا سبيل إلى إنكاره. فما العلة في ذلك؟
وسوف نبين العلة الصحيحة بعد أن نستبعد ما يذكره عن مشاعره الباطنة، من انه يتمتع بما يقرأ تمتعاً زائداً. فهذا الشعور غير صادق، بل هو تمويه من النفس. فلا يستقيم أن تكون المتعة حقيقية ثم ينصرف عنها نائماً، بل العكس هو الصحيح
والنوم عند القراءة دليل لا يخطئ على عدم الرغبة فيها. وقد يعبر الإنسان تعبيراً آخر يفصح عن هذا الصدوف، كأن ينسى الموضع الذي ترك فيه الكتاب، أو ينسى اسمه وموضوعه، أو يجد في عينيه تعباً، وقد يصاب أحدنا بظهور (الذبابة الطائرة) وهي نقطة سوداء تعاكس الرؤية، وهذا إنذار بالتعب من القراءة، وفي بعض الأحيان يصاب الشخص بعمى تام، فلا يبصر شيئاً، لا لعلة في العين، بل لشدة الإجهاد العقلي في القراءة والرغبة اللاشعورية في الابتعاد عنها.
الحق أن القراءة ليست شيئاً في طبيعة البشر، فقد ركب الله العين في الإنسان ليبصر بها الأشياء الخارجية فيعرفها في المناظر من جمال هو الذي يبعث المتعة في جوانب النفس.
والأصل في التفاهمبين الناس السمع لا البصر، وذلك قيل الإنسان حيوان ناطق. فالألفاظ التي يتألف منها الكلام تنتقل من الفم إلى الاذن، ويتم عند ذلك الإدراك ويحصل العلم. حتى إذا اخذ الإنسان يتحضر عرف التدوين والكتابة، وسجل الألفاظ المنطوقة في رموز مكتوبة