رسمها رسماً. واتسعت الكتابة مع الرقي، وكثرت الكتب، وأصبحت مرجع الناس في تحصيل العلوم، مع أن الأصل أن يستمد المرء العلم سماعاً ويتلقاه من أفواه العلماء. ولعلكعندئذ تعلم لماذا امتنع سقراط عن التدوين، ولماذاكان يلقي دروسه إلقاءً.
الكتب - وقاك الله شرها - فيها منافع وفيها مضار. فمن منافعها أنها تلخص لك أفكار العلماء الذين افنوا أعمارهم في بلوغها في حيز ضيق، تستطيع أن تحصله في ساعات قليلة. ومن منافعها أن العلم ينتقل إليك في دارك فتطلع على آرائه وأنت مضطجع، بدلاً من شد الرحال إليه. ومن منافعها إنها صديق تأنس إليه وقت الشدة فيفرج همك ويسري عنك ويبعث في نفسك المتعة حتى إذاسئمته ألقيته جانباً.
ومن مضارها إنها كالجثة الهامدة لا حياة فيها، لأن حياة الأفكار في حياة قائلها، ولذلك كان الاستماع إلى حديث العالم أمتع للنفس وارسخ في الذهن.
ومن مضارها الذهاب بقوة البصر، لأن التحديق في الحروف السوداء ساعة بعد ساعة، ويوماً بعد يوم؛ وعاماً بعد عام، يجهد العين ويضعفها.
وكل قارئ تمر به فترات من الضيق فيسأم الاطلاع في وجوه الكتب، ويصدف عنها، ولا علاج لذلك إلا تركها مدة من الزمن، والترويح عن النفس بقراءة (كتاب الطبيعة).
وهذا شئ قل أن يفعله القراء في الشرق، نعني الخروج إلى الحدائق العامة والتأمل في مباهج الطبيعة. وكان عادة أرسو أن يلقي دروسه في بستان وهو يجوس خلال مماشيه، ولذلك سمي اتباعه بالمشائين.
فلا تتألم أيها السائل لأنك تنام عند القراءة، واسترح قليلاً، وخذ العلم من المجالس ومن أفواه العلماء ومن قراءة كتاب الطبيعة - أما النوم الذي تشكو منه، فان لم يكن لعلة جسمانية وضعف طارئ، فهو رد فعل طبيعي لإرغام نفسك على ما لا تحب وتشتهي.
والابتعاد عن الأشياء غير المرغوب فيها يتخذ أشكالاً مختلفة؛ فشخص يلقى الكتاب من يده، وآخر يمزقه، وثالث يبيعه. اعرف ناساً كثيرين حين ضاقوا بالقراءة باعوا مكتباتهم التي اقتنوها على مر الزمان، فلما ذهبت فترة السام والملل ندموا على ما فعلوا.
وقد لا تنصرف الصورة في إبعاد القراءة إلى الكتاب، بل إلى الشخص، فيشعر بالفتور، أو التثاؤب، أو الرغبة في النوم، أو ينام فعلاً.