الرافعي، فلم يعد الأديب هو الذي يوجه القارئ كما كان الأمر من قبل، وإنما صار القارئ وصاحب الصحيفة هو الذي يوجه الكاتب الأديب، فقد أمست الصحف مثل حوانيت البادلين والبزازين يقبل عليها (الزبائن) بمقدار ما فيها من تزويقات ومظاهر خلابة لا غناء فيها ولا طائل من ورائها، ذلك لأن قارئ اليوم لا يحب الدسم ولا الطعام المركز، وإنما هو يقنع بالشطائر الخفيفة وإن كان ضررها على الصحة بليغا، ونقصد بالصحة صحة العقل والذهن ذلك لأن جيل هذه الأيام إنما يعني بصحة الأجسام ويطرح صحة العقول؟
وكذلك انحطت الصحافة بالأدب والأديب الناجح هو الذي يجاري الجمهور ويتملق غرائزه، فإذا عدمت الجريدة هذا النوع من الأدباء فإنها لا تعدم (المخبر) الذي يجيء كل يوم بأبشع أحداث الجنايات، وأطرف أخبار الطلاق
أني لأذكر أن أديبا نابها انتسب إلى إحدى الصحف، وسمعت أحد المعلقين يقول: إنه لا يصلح لهذا العمل، فتساءلت لماذا؟ فقيل لي: لأنه أديب - كذا والله! - فهتفت: يا قوم أفيكون المقتضى مانعا؟ ولقد كان الأمر كذلك في الواقع، فلم تمض إلا بضعة أشهر حتى استغنت الصحيفة عن الأديب المشهور واستعاضت عنه بشاب أُمي لا يحسن القراءة والكتابة ولكنه أخصائي في أنباء الفضائح والتشهير والتشنيع!
ومنذ أشهر أتصل بي أن أديب لامع الاسم موفور الكرامة سوف يعين رئيسا لتحرير إحدى الجرائد، فاستبعدت الخبر قياسا على ما علمته من التضاد بين الأدب والصحافة، وصح حدسي، فإن أديبنا سئل في ذلك فأجاب ونعم ما أجاب (أن الصحيفة التي أكون رئيسا لتحريرهالم تخلق بعد) ذلك لأن الصحافة لا تبغي أن يديرها الأدباء، وإنما تريد أن يكون الأدباء تبعا لها وصدق حدسي مرة أخرى حين اختارت هذه الجريدة لرياسة تحريرها صعلوك من صعاليك الصحافة!
أما بعد، فإن الأدب في مصر يعاني اليوم محنة بالغة الشدة. ولست في هذا متشائم، ولا أحب أن يشيع الشؤم، وإنما أريد أن ابصر رعاة العهد الجديد المجيد بحال الأدب الذي هو عماد كل أمة، فالأدب هو ضرام الثورة وشعارها، ولو بقيت سوق الأدب على كسادها، وانصرف الأدباء عن غشيانها، فقل على الأمة العفاء ثم العفاء!