المراحل التي مر بها تدوين ذلك العلم وما وجه إلى طريق تدوينه وجمع أخباره من نقد وما أبدى عليه من ملاحظات. لقد مر تدوين التاريخ بعد الإسلام على وجه التحديد في أوائل العصر العباسي الأول بمرحلتي الأولى تدوين الأحداث حسب الترتيب الزمني الذي لها، وربطهم بالسنين وروايتها بطريقة السلسة؛ وممن سار على هذه الطريقة المؤرخ المشهور ابن جرير الطبري. حاكاه فيها - خلفه العظيم ابن الأثير بعد أن اسقط سلاسل الرواة. ومن قبلهما ابن اسحق والواقدي. . الأول في السيرة والثاني في ألفتوح. والمرحلة الثانية هي التدوين على غرار الأسر أو الدول والأشخاص كتاريخ الخليفة عمر بن الخطاب أو الدولة الأموية أو الطولونية حيث يترجم المؤرخون للخليفة أو الحاكم ويستعرض ما حدث في عهده من الأحداث وقد يتطرف إلى ذكر بند عن حالة البلاد المجاورة في ذلك العهد ومن الذين ساروا على هذه الطريقة كل المؤرخين الذين كتبوا عن الأمم والأشخاص والبلدان كابن طيفور صاحب تاريخ بغداد ويوسف ابن الداية والكندي والعتبي وغيرهم.
وفي هاتين المرحلتين لوحظ على تدوين التاريخ أن الأخبار كانت تروى في المرحلة الأولى على علاتها دون بحث أو تمحيص وفي الثانية يسقط منها ما لا يرضى الأسرة الحاكمة أو الدولة أو الخليفة. ولوحظ أيضاً أن التدوين في المرحلتين لم يعد النواحي السياسية والحوادث التاريخية المرتبطة بحروب الخليفة مع غيره أم المتعلقة بشخصه؛ حتى ليكاد القارئ يظن أن تاريخ الأمة العربية كان جملته حياة ولاة وخلفاء، ووحدة منازعات ومخاصمات، لا تاريخ أمة ولا حضارة شعب. ويبدو ذلك جلياً في استعراض المؤرخين للأحداث السياسية الجارية في أزمانهم وإبرازهم ما يتصل منها بالقادة والخلفاء، وإهمالهم النواحي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للشعب. ومما لا ريب فيه أن التاريخ ليس هو الجانب السياسي المحض للامة، ولكنه الوحدة القائمة على تفاعل الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وقد ظل هذا التشويش يسود تدوين التاريخ إلى أن ظهر الفيلسوف الاجتماعي المؤرخ العلامة ابن خلدون في القرن الثامن وألف مقدمته فألقى أضواء متألقة على تدوين التاريخ، ولم يفته أن يطلع على المراجع التاريخية التي ألفت في العهود السابقة لعهده وما نقله المؤرخون من الأخبار التي لا سد لها من الحقيقة فهاجمهم وأنكر عليهم تخبطهم ورسم لهم الطريقة المثلى وابرز المطاع المأخوذة