وقد اصطلح الناس على أن مادة السرقة هي (مد اليد) أخطأت أم أصابت، وجاءت بالغالي أو جاءت بالرخيص؛ فضم أصابعه على العلبة وانتزعها، وترك في مكانها فضيلة الأمانة التي لم يعرف له الناس قيمتها، فهانت كذلك على نفسه، وانطلق وهي تناديه:
أيها الغلام، أتدفع ثمن علبة الكبريت سنتين من عمرك، وهل خلا الناس ممن يعرفون لعمرك قيمة؟
وارتد رجع الصوت الخفي إلى قلبه من حيث لا يشعر، فضرب قلبه ضربات من الخوف، ونزا نزوة مضطربة؛ فالتفت الغلام مرة أخرى، ثم أمعن في الفرار وترك الأمانة تناديه:
أيها الغلام، إن لك في الآخرة ناراً لا توقد بهذا الكبريت، ولك في الدنيا سجن كهذه العلبة، فالعب العب ما دام الناس قد أهملوك، العب بالثقاب الذي في يدك فسيمتد فيك معنى اللهب حتى يجعل حياتك في أعمار الناس دخاناً وناراً، وستكون أيامك أعواداً كهذا الكبريت تشتعل في الدنيا وتحرق
وكأن أذناب السياط كانت تلهب ظهر الغلام المسكين، ولكنه ما كاد يلتفت هذه المرة حتى كان في قبضة صاحب الحانوت، وإذا هو بكلمة من لغة كفه الغليظة، خيلت له في شعرها أن جداراً انقض عليه، وتلتها جملة من قوافي الصفع جلجلت في أذنيه كالرعد، وأعقب ذلك مثل الموج من جماعات الأطفال أحاط به، فترك هذا الزورق الإنساني الصغير يتكفأ على صدمات الأيدي. فما أحس الغلام التعس إلا أن الكبريت الذي في يده قد انقدح في رأسه، وكانت أنامل صاحب الحانوت كأنما تحك أعواده في جلد وجهه الخشن!
وذهبوا به إلى (دوار) العمدة يقضي فيه الليل، ثم يصبح على رحلة إلى المركز والنيابة. وانطرح المسكين منتظراً حكم الصباح، مؤملاً في عقله الصغير ألا يفصح النهار حتى يكون (سيدنا عزرائيل) قد طمس الجريمة وشهودها؛ ثم أغفى مطمئناً إلى أن ملك الموت وأنه قد أخذ في عمله بجد، وأيقن عند نفسه أن سيشحذ في الخميس مما يوزع على المقبرة صدقة على أرواح العمدة، وصاحب الحانوت، والخفير الذي عهدوا إليه جره إلى المركز. . . .! وكيف يشك في أن هذا واقع بهم وهو قد توسل بالولي فلان ونذر له شمعة يسرقها من حانوت آخر. .!
هكذا عرف الشر قلب هذا الصبي، وانتهى به عدل الناس إلى أفظع من ظلم نفسه، وكأنهم