ويسمون ويعتدون وينهبون؛ وما تكون (علبة الكبريت) في جنب ذلك وخاصة بعد أن استردها صاحبها، وقد نال هو ما كفاه قبل الحكم؟
وما لبث بعد هذا الخاطر الجميل أن رد الاطمئنان في عينيه دموعاً كاد يريقها الجزع. غير أن القلق اعتاده فالتفت إلى كتّاب المحكمة مرة والى الجند مرة، ثم لوى وجهه ولم يستبح لنفسه أن يتجرأ على الفكر فيهم، لأنه قابل مهابتهم بآلهة بلده: العمدة والمشايخ والخفراء؛ فأدرك أن الجنود هم الحكومة القادرة، واستدل على ذلك بأزرارهم اللامعة، وخناجرهم الصقيلة، وتمشت في قلبه رهبة هذه الخناجر، فاضطرب خشية أن يكونوا قد أسلموه إلى من يذبحه، فنظر إلى الذي يليه من المجرمين وسأله (راح ياخذوني فين؟) فأجابته لكمة خفية انطلق لها دمعه، حتى أسكته الذي يليه من الجانب الآخر، وكان في رأيه من الصالحين!
ثم اتصل الجزع بين قلبه وعينيه، فهما تضطربان إلى الجهات الأربع، وكأنما يحاول أن يستشف من أيها سيأتيه الموت ذبحاً. ولم يكن فهم معنى (الإصلاحية)، وحكم القضاة عليه كأنه رجل يفهم كل شئ، ولم يرحموا هذه الطفولة بكلمة مفسرة. وعدل التربية غير عدل القانون، فكان الواجب على القاضي الذي يحكم على الطفل، أن يجعل حكمه أشبه بصيغة القصة منه بصيغة الحكم؛ وأن يدع الجريمة تنطلق وتذهب فلا يقول لها امكثي. . .
وبقي للخناجر رهبتها في نفس هذا المسكين، فلو أنهم قادوه إلى حبل الشناقة لأفهمه (الحبل) معنى العقوبة، أما وهو بين هذه الخناجر المغمدة - وفي الخناجر معنى الذبح - فإنما هو الذبح لا غيره
وطرقت أذنيه قهقهة المجرم عن يمينه فاستنقذته من هذا الخاطر، فثبت عينيه في الرجل، فإذا هو يرى وجهاً متلألئاً، وجسماً رابط الجأش، وهزؤاً وسخرية بهؤلاء الجنود وخناجرهم
واستراح الغلام إلى صاحبه هذا، وألح بنظره عليه، وابتدأ يتعلم في وجهه الفلسفة؛ وليست الفلسفة مقصورة على الكتب، بل إن لكل إنسان حالة تشغله، فنظره في اعتبار دقائقها وكشف مستورها هو الفلسفة بعينها
وقال الغلام لنفسه: (هذا الرجل أقوى من كل قوة؛ فهو محكوم عليه ولا يبالي، بل يقهقه ضحكاً؛ فهذا الحكم إذن لا يخيف. لا، بل هو تعود الأحكام، إذن فمن تعود الأحكام لم يخف