سكنا من ذوي قرابته. وقد خصصت بعض (المناظر) - وهي الغرف الواسعة - التي تقع على جانبي الفناء من تلك الدار، مكتبا يستقبل فيه أبوه موكليه من أصحاب الدعاوى والأقضية، وكان أزهري الثقافة فاشتغل زمنا بتدريس اللغة العربية بالمدرسة الخديوية، ثم هجر التدريس واحترف المحاماة إلى آخر أيامه. وكان على الحالين مبسوط الرزق موفور الدخل، ولكنه كان كذلك متخرق اليد بالنفقة والعطاء، مسرفاً في تحقيق رغائبه وتلبية أهوائه، ولعله لهذا السبب كان مزوجاً يكثر من البناء بالتركيبات الخصوص. وكانت طبيعة عمله في المحاماة تقتضيه أن يلم بالقسطنطينية بي حين وحين، فكان كلما سافر إليها عاد مناه بزوجة جديدة، لا يلبث أن يعود بها أدراجه إلى بلدها فيسرحها بإحسان ويبني بسواها. على أنه كان، فيما عدا ذلك، حليما طويل البال قليل الكلام ساك الطائر. لعله استفاد مزية الأناة والحلم من كثرة ما راض فسه على احتمال ما كان يتعرض له، من الجفوة والمعتبة، من أبيه الشيخ أو من زوجته الشابة المصرية أو أولاده، كلما استجد عليها بإحدى تركياته الحسان.
وكان، كما هو المعهود في أصحاب هذا الطبع، قليل الاستقرار فهو لا ينفك ينتقل بأهله من دار إلى دار. وعلى الرغم من ذلك فقد استطاع المازني الطفل أن يحتفظ في ذاكرته بالصورة الغالبة على تلك الدور. وأبقى ما بقي منها منظر الفناء الرحيب الذي كان صفة مشتركة بينها، والذي كان على هيئة الصحن تقعي في وسطه أحيانا شجرة جميز عتيقة عظيمة كثيفة الغصون، وربما قامت في موضعها نافورة ماء تروي الحديقة المترامية الأطراف من حولها.
وقد قضى المازني سني الطفولة الباكرة في بيت من بيوت المماليك - وكانت تعرف ببيوت (الغز) - في درب الجماميز، ويصفه المازني فيقول (كان البيت عجيب الطراز، له بوابة ضخمة تصلح أن تكون لقلعة، ومع ذلك لا تغلق في ليل أو نهار، ثم مدخل طويل ضيق على جانبيه الغرف وهي أبداً موصدة الأبواب والمرء لا يستطيع في النهار أن يبصر كفه من شدة الظلمة، وكنا نضع مصباحاً ولكنه لم يكن يضيء شيئا، بل كان كل ماله من النفع هو أن يرينا شدة السواد ويزيده وقعاً في النفوس).
وكان الصبيان من لداته وأترابه يقضون أيامهم في اللعب البريء، فيجتمعون في فناء أحد