الدور، أو يخرجون إلى الطريق - أو (الحارة) كما يسمونها - يصرفون نهارهم كله فيما يتعلقون به من فنون اللهو. وكان المازني الطفل أشوقهم إلى اللعب وأرغبهم فيه وأجزلهم حظاً منه، وقد تميز من بينهم بحب للدعابة وميل إلى الفكاهة. وكانت فيه دفعة وجرأة تغريانه بالتقحم والمغامرة وطلب الشجار أو (جر الشكل) كما يقول، وإن كان مع ذلك ضعيفاً نحيفاً، ولقد اعتاض من ضعفه سعة الحياء والدهاء، فصارت له بفضله منزلة بين لداته الصبيان.
على أنه لك يكن يهنأ بهذه الرغبة الطبيعية فيه أو يأخذ بحظه منها؛ فقد كان يدفع دونها ويحلأ عنها، فلا يهم باللعب مرة إلا زجره أهله ونهوه عنه كأنما كان يقترف منكراً ويقارب معصية، حتى لخيل إليه - وهو يدير عينه في تلك الأيام - أن وظيفة الآباء والأمهات (كانت صرف الأبناء عن النظر والتفكير، وإلزامهم الجمود ونهيهم عن كل حركة جسمية أو عقلية).
ولا غرابة بعد ذلك أن تضيق نفس الطفل بالبيت وبالحياة فيه، وأن يراه أشبه بالجحيم. فهو لا يكاد يقبل إلى الدنيا، غريباً عنها مأخوذا بجدتها مشوقا إلى معرفتها؛ يحفزه إلى ذلك فسه المتفتحة وطبعه المتوثب؛ حتى يطالبه الكبار بأن يكون له، وهو الطفل الغرير، (عقل الكبار واتزانهم وفهمهم).
وربما بدا عصياً على التصديق أن تكون هذه نظرة الطفل إلى البيت في ذلك العهد. ولكن الأمر لا يتعاصى على التحقيق، إذا عرفنا أن المازني نشأ في بيت من بيوت الورع والتقوى، فأبوه وجده من علماء الأزهر، وقد طرقت مسامع الطفل الناشئ آنذاك عبارات الثناء على جده من أفواه تلاميذه وعرف منهم منزلة مرعية للشيخ. وكذلك كان هذا البيت ببنيانه فضلاً عن سكانه؛ فكان يقوم في فنائه مصلى أو مسجد صغير (عامراً أبداً بالمصلين ليلاً ونهاراً)، ويختلف إليه المريدون والاتباع يعقدون حلقات الذكر التي كانت تمس قلب الطفل الصغير وتملك عليه نفسه، فينغم إليهم، ويأتي بمثل ما يأتونه من صوت وحركة فكانت نشأته اقرب إلى النشأة الدينية التي يغلب عليها المحافظة والتوقر ومجافاة ما عساه يكون مظنة شك أو مدعاة ريبة، مع التشدد في التقاليد المرعية والعرف السائد، والذهاب في ذلك كله إلى حد المغالاة والإسراف. ومن طرائف ما لقيه الطفل في هذه النشأة، أنه