درج يسمع عن شخصين في البيت ولا يراهما أبداً؛ (وإن كان ذكرهما على لساني أبي وأمي؛ وهما (الست) و (الأفندي)، فأبي يقول للخادمة مثلاً، قولي كذا أو كذا (للست)، ويتحدث في أوقات شتى ولا سيما حي يكون معه رجال من أقربائنا عن هذه (الست). وأمي لا تفتأ تقول، (الأفندي) قال أو (الأفندي) أتى أو الأفندي) خرج. فاعجب أين هما؟ ولماذا لا أراهما؟ واصعد إلى السطح باحثاً عنهما فلا أجدهما، وادخل كل غرفة فلا اهتدي إلى أثرهما، وانزل إلى فناء الدار فلا التقي بهما. أين ينامان يا ترى؟ ماذا يأكلان؟ ألا يظهران أبداً؟). . . وظل يجهل شخصيهما حتى قدر لهذا اللغز أن يحل على يد جده الذي قال له (لقد اخطئوا معك يا بني، وكان حقهم أن بدلوك).
ونحسبنا في غنى عن القول بأن هذين الشخصين لم يكونا أحدا غير أمه وابيه، يذكر كل منها الآخر، ويتحدث عنهما الآخرون، فعلا يعدي في الإشارة أليهما عن تلك الصفتين، وكانت النتيجة هي ذلك الازدواج الساذج في وهم الطفل الصغير.
على هذه الحال، دفعوا بالطفل، وهو لم يعد الخامسة، إلى كتاب من كتاتيب القاهرة لذلك العهد، على مقربة من الدار. . ويقول المازني (ويصبح الصباح فأحمل إلى الكتاب حملاً، وهناك توضع قدماي في (الفلقة) ويهوى عليها (سيدنا) - فقيه الكتاب - بالجريدة (المقرعة) ويكل ذلك إلى مساعدة (العريف)، وبهذا يبدأ النهار. .).
على أن عهده بالكتاب لم يطل. فقد أصرت أمه على المدرسة وألحقته - عن طريق إحدى معارفها - بمدرسة للبنات. ولم يلبث أن هرب منها - أو من قسوة ناظرها - إلى مدرسة أخرى كانت تقع وقتذاك في شارع تحت الريع - أو في درب سعادة - وعلم أبوه بذلك فنقله إلى مدرسة (القرشوللي) في شارع محمد علي، على مقربة من القلعة. وبقى به هذه المرة حتى أدى الامتحان في آخر العام، ومع ذلك فقد أبى الناظر أن ينقله إلى فرقة أعلى لصغر سنه، ولعله بقي في هذه المدرسة عاما آخر، استقر بعده في المدرسة القريبة.
ويقول المازني (كنت أعود عصر كل يوم إلى البيت، فأرمي كتبي وكراساتي واخرج إلى الشارع لألعب مع أقراني، فأزجر عن اللعب، فأصعد واطل على اللاعبين من الشرفة، وبي حسرة ولهفة. واسمعهم يصفونني بالعقل والهدوء، فألعن العقل وأذم الهدوء).
وقد كان في حياة أبيه لا يعدم الوسيلة إلى اللعب والاحتيال له بما يدخل في وسعه؛ فقد كان