على أبيه جرأة لا يجدها على سواه. فلما مات أبوه وهو يشرف على التاسعة أرادت أمه أن تصرفه عن اللعب وأن تنأى به عنه، وألقت إليه فيما يشبه الإيحاء أن يعد نفسه - قبل الأوان - رب الأسرة ورجلها ووحدها، وأعدت من ناحيتها للأمر عدته، فكان إذا انتهى العام الدراسي وحل الصيف، بعثت بابنها إلى كتاب في الأزهر ليحفظ القرآن فلا يجد الطفل لعبه من الوقت إلا الهين اليسير.
ولقد كان المازني خليقاً أن يستوفي حظ طفولته من رغد العيش وخلو البال وعدم الاشتغال بأمر نفسه فضلاً عن أمور غيره، لولا أن الأقدار كانت تهيئ له أمراً، فكتبت عليه أن يحمل في تلك السن المتقدمة أعباء الرجال المسئولين، بما أوحى إليه من ضرورة الاعتماد على النفس والكدح في سبيل ما ينتظره من أهله في المستقبل. نعم، لم يكن الطفل ملتزماً مطالب العيش لمن خلفهم أبوه بعده، وإنما كان عليه أن يعرف أن عهد الطفولة، أو عهد اللعب، قد مضى، وأن يقصر نفسه على غير ما تتهيأ له طاقتها في سنه. وعندما فرغت البقية الباقية من مالا أبيه، وقد كفل ذلك سرف أخيه الأكبر؛ كان عليه أن يوطن نفسه على الفقر وأن يستعد له. . ولقد عرف المازني الفقر في ذلك العهد من حياته، وخبره عن كثب، وامتحن به، حتى وصفه بأنه أستاذه، ولكنه كان يلقي على دروسه كما تهوى العصا على أم الرأس!).