أذن للناس إذناً عاماً فدخلت عليه امرأة وقد رفعت لثامها عن وجه كالقمر الذي شرب من ماء البرد ومعها جاريتان لها فخطبت للقوم خطبة بهت لها كل من هناك ثم قالت: وكان من قدر الله تعالى انك قربت زياداً واتخذته أخاً وجعلت له في آل سفيان نسبا ثم وليته على رقاب العباد فسفك الدماء بغير حلها ولا حقها، وينتهك المحارم بغير مراقبة فيها، ويرتكب من المعاصي أعظمها! لا يرجو لله وقارا ولا يظن أن له ميعاداً وغداً يعرض عمله في صحيفتك وتوقف على ما اجترم بين يدي ربك، فماذا تقول لربك يا معاوية غداً وقد مضى من عمرك أكثره وبقى أيسره وشره؟ فقال لها من أنت؟ فقالت امرأة من بني ذكوان وثب زياد المدعي أنه من بني سفيان على وارثتي من أبي وأمي فقبضها ظلماً وحال بيني وبين ضيعتي وممسكة رمقي؛ فإن أنصفت وعدلت وإلا وكلتك وزياداً إلى الله تعالى وأن تظل ظلامتي عنده وعندك، فالمنصف لي منكما الحكم العدل. . فبهت معاوية منها وصار يتعجب من فصاحتها ثم قال: ما لزياد لعنه الله مع من ينشر مساوينا، ثم قال لكاتبه اكتب إلى زياد أن يرد لها ضيعتها ويؤدي إليها حقها.
وحكى أن سليمان بن عيد الملك قدم إلى المدينة وهو يريد مكة فأرسل إلى أبي حازم فدعاه فلما دخل عليه قال له سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. فقال: يا أبا حازم كيف القدوم على الله؟ قال: يا أمير المؤمنين: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري ما لي عند الله؟ قال أبو حازم اعرض نفسك على كتاب الله حيث قال:(إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال قريب من المحسنين، ثم قال سليمان: يا أبا حازم أي عباد الله أكرم؟ قال أهل البر والتقوى، قال: فأي الأعمال افضل؟ قال أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي الكلام اسمع؟ قال قول الحق عند من تخاف وترجو، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: رجل عمل بطاعة الله ودعا الناس إليها. قال فأي الناس أخسر؟ قال رجل حط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره.
فهكذا كان دخول أهل العلم على الملوك وهم بحق علماء الآخرة. فأما علماء الدنيا فيدخلون ليتقربوا إلى قلوبهم فيدلونهم على الرخص، ويستنبطون لهم بدقائق الحيل وطرق السعة